منذ سقوط نظام بشار الأسد، الذي طالما سعت الدول العربية إلى سحبه من الحضن الإيراني، اتجهت السعودية والإمارات لدعم نظام أحمد الشرع، رغم خلفيته الإسلامية المتشددة.
الإمارات العربية المتحدة، المعروفة بمشروعها التحديثي والعلمي، تقف منذ سنوات في طليعة الدول المحاربة للإسلام السياسي، وتعد من أبرز أعداء جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية المتطرفة في العالم العربي.
أما السعودية، فقد تخلّت عن دعم تلك التيارات منذ صعود محمد بن سلمان، وبدأت الترويج لما تسميه “الإسلام الوسطي”، مع تقارب واضح مع النهج العلماني في بعض الملفات، خصوصاً في أبوظبي التي تتبنى فصلاً شبه كامل بين الدين والدولة.
وبالطبع يطرح المتتبعين سؤالا مهما لماذا تدعم الإمارات والسعودية دولة سوريا أحمد الشرع رغم أنها ضد الإسلام السياسي الإرهابي؟
السعودية والإمارات: عداء تاريخي للإسلام السياسي
منذ اندلاع ما سمي بـ”الربيع العربي”، اتخذت السعودية والإمارات موقفاً حازماً ضد صعود التيارات الإسلامية إلى السلطة، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين.
ففي مصر، دعمتا بقوة انقلاب عبد الفتاح السيسي على حكم محمد مرسي، أول رئيس منتخب من الجماعة، ودفعتا مليارات الدولارات لإنقاذ الاقتصاد المصري بعد الإطاحة به.
هذا الموقف لم يكن لحماية الاستقرار فحسب، بل انعكاساً لرؤية أيديولوجية تعتبر الإسلام السياسي تهديداً وجودياً لبنية الدولة الخليجية ومشروعها التحديثي.
بالنسبة للإمارات، يمتد العداء لجذور أعمق، فقد صنفت أبوظبي جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، وشنّت حملات واسعة على أي نشاط سياسي ذي طابع ديني داخل حدودها، حتى وإن كان سلمياً أو دعوياً، وقد بنت خطاباً سياسياً واضحاً يدعو لفصل الدين عن الدولة ويدعم العلمانية كأساس للاستقرار والتنمية.
أما السعودية، فقد انتقلت من دعم تيارات الصحوة في الثمانينات والتسعينات إلى تبني سياسة “الإسلام المعتدل” التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان.
أُقصيت المؤسسات الدينية من القرار السياسي، وحُدّت صلاحيات الهيئات المتشددة، وبدأت حملة لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة في الداخل والخارج، بما يشمل علاقاتها الإقليمية.
في هذا السياق، يبدو من المنطقي أن تعادي الرياض وأبوظبي أي نظام يرفع شعارات دينية أو يُدار من قبل إسلاميين، مهما اختلفت مذاهبهم أو خلفياتهم، إلا أن دعم أحمد الشرع يفتح باب الأسئلة حول حقيقة هذا العداء ومحدوديته.
التحول في السياسة السعودية والإماراتية تجاه سوريا
في بدايات الثورة السورية عام 2011، وقفت السعودية والإمارات إلى جانب مطالب إسقاط نظام بشار الأسد، واعتبرتاه امتداداً للنفوذ الإيراني في المشرق العربي، وتهديداً مباشراً للأمن الإقليمي.
قدمت الدولتان دعماً سياسياً ومالياً لبعض فصائل المعارضة، ودعمتا الجهود العربية والدولية لعزل النظام السوري دبلوماسياً، آنذاك، كان الخطاب المهيمن يصور الأسد كديكتاتور دموي يتحالف مع الشيعة والمليشيات الطائفية ضد شعبه السني.
لكن مع تعقيد المشهد السوري، وصعود الجماعات الإسلامية المتشددة مثل “داعش” و”جبهة النصرة”، بدأت الحسابات تتغير.
ففي نظر صناع القرار في الرياض وأبوظبي، أصبحت الفوضى أخطر من الاستبداد، والإسلاميون أخطر من الإيرانيين مؤقتاً.
ومع نهاية العقد الثاني من القرن، تبنّت الدولتان سياسة “الواقعية البراغماتية”، وبدأتا بإعادة فتح قنوات التواصل مع دمشق، بحجة “استعادة سوريا إلى الحضن العربي”.
تُوّج هذا التحول بإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، وزيارات رفيعة المستوى بين دمشق والعواصم الخليجية.
ومع تصاعد الحديث عن مرحلة ما بعد الأسد، اختارت السعودية والإمارات دعم أحمد الشرع، في خطوة فُسرت على أنها محاولة لتأمين بديل قادر على ضمان استقرار سوريا، دون أن يعيد إنتاج الفوضى الإسلامية من جديد.
هذا التحول لا يعكس فقط تغييراً في الموقف من النظام، بل أيضاً مراجعة شاملة للسياسات الإقليمية تجاه الإسلام السياسي، وإعادة تعريف “العدو الأول” وفقًا للمصالح الجيوسياسية لا المبادئ الأيديولوجية فقط.
إيران خارج المعادلة؟ دوافع جيوسياسية وراء دعم الشرع
رغم أن أحمد الشرع يأتي من خلفية إسلامية متشددة، فإن دعمه من قبل السعودية والإمارات لا يمكن فهمه خارج السياق الجيوسياسي الأوسع، خاصة في ما يتعلق بإخراج إيران من سوريا.
لطالما اعتُبرت طهران المستفيد الأول من بقاء الأسد، إذ أنقذت نظامه عسكرياً واقتصادياً، وغرست ميليشياتها في نسيج الدولة السورية لضمان الولاء المطلق.
بالنسبة للرياض وأبوظبي، فإن أي بديل للأسد يكون غير مرتبط عضوياً بإيران هو فرصة لإعادة تشكيل التوازنات داخل سوريا.
ومع أن الشرع كان محسوباً في السابق على التيار الإسلامي، إلا أنه يُنظر إليه الآن كشخصية عملية، مستعدة لإعادة التموضع، خصوصاً إذا حصل على دعم مالي وسياسي من الخليج.
الرهان هنا ليس على خلفية الشرع الأيديولوجية، بل على قدرته على الانفصال عن المحور الإيراني، والقبول بشروط إعادة الإعمار الخليجية، والانخراط في المحور العربي الجديد الذي تسعى السعودية والإمارات لتشكيله في وجه كل من إيران وتركيا.
بكلمات أخرى، يبدو أن العداء الإيراني أصبح أولوية قصوى تتفوق على الخطوط الحمراء الأيديولوجية التي طالما رُسمت ضد الإسلاميين، ما يفسر المرونة السياسية الجديدة في دعم شخصية مثل أحمد الشرع، طالما أنه يحمل وعداً بفك الارتباط مع طهران.
هل تسعى الإمارات والسعودية لإعادة تشكيل الإسلام السياسي؟
رغم الخطاب المعلن بعداء الإسلام السياسي، إلا أن دعم السعودية والإمارات لأحمد الشرع يُظهر تحولاً أعمق: ليس اجتثاث الإسلام السياسي بالكامل، بل إعادة هندسته ليكون أداة طيّعة تخدم الاستقرار والنظام، لا الثورة والفوضى.
يبدو أن الرغبة لم تعد في محاربة كل ما هو إسلامي، بل في القضاء على النمط الثوري الشعبوي الذي مثّلته جماعة الإخوان المسلمين، واستبداله بنموذج “الإسلام المؤمم” – إسلام يخضع للدولة، لا يتحدى سلطتها.
هذا ما تفعله الإمارات داخلياً عبر فرض نمط ديني خاضع للمؤسسات الرسمية ومراقب بدقة، وهو ما بدأته السعودية أيضاً مع “هيئة كبار العلماء” وتفكيك مؤسسة الصحوة، وقد يكون دعم شخصية مثل أحمد الشرع، رغم خلفيته، محاولة لإعادة تصدير هذا النموذج إلى الساحة السورية.
الشرع قد يمثل الإسلام السياسي “المفلتر” من وجهة نظر الخليج: لا يتبنى فكرة الحاكمية ولا يعارض الدول القومية، مستعد للانخراط في منظومة دولية وإقليمية جديدة، ويمكن التفاهم معه اقتصادياً وأمنياً.
بذلك، فإن الهدف الحقيقي قد لا يكون فقط إبعاد إيران أو مواجهة تركيا، بل أيضاً احتكار تعريف الإسلام السياسي المقبول خليجياً، وتصديره كنموذج بديل يحظى بالشرعية والدعم المالي والسياسي.
الدعم الخليجي مشروط بسلوك مقبول من دمشق
رغم الانفتاح السعودي والإماراتي على النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، إلا أن هذا الدعم لا يُمنح بلا شروط.
فالخليج لا يبحث عن حليف أيديولوجي، بل عن شريك سياسي يمكن ضبطه والتحكم فيه، يلتزم بخطوط حمراء واضحة تتعلق بالسيادة، والعلاقات الإقليمية، والسلوك الأمني الداخلي.
في مقدمة الشروط الخليجية يأتي الانفكاك الكامل عن المحور الإيراني، وقطع أي علاقات أمنية أو عسكرية مع الحرس الثوري أو حزب الله.
كما يشمل الدعم اشتراطات تتعلق بإعادة الإعمار، حيث تصر الرياض وأبوظبي على أن الأموال الخليجية لن تُضخ ما لم تترافق مع إصلاحات سياسية وضمانات للحد من النفوذ الأجنبي، خصوصاً الإيراني.
بالإضافة إلى ذلك، هناك توقعات واضحة من دمشق الجديدة بمحاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وقمع أي حراك إسلامي خارج المظلة الرسمية، بما في ذلك الجماعات التي قد تتسلل تحت شعارات وطنية أو شعبوية.
الخليج يريد “استقراراً أمنياً” أكثر من أي شيء آخر، حتى لو كان ذلك يعني إعادة تدوير بعض النخب ذات الخلفيات الأيديولوجية ما دامت مطيعة وفعالة.
في النهاية، يظهر الدعم الخليجي وكأنه صفقة براغماتية مشروطة: المال والسياسة مقابل السلوك المقبول، لا الولاء المطلق ولا التقارب الأيديولوجي.
الإمارات والسعودية لا تريدان سوريا تابعة لتركيا
من أبرز دوافع الدعم الخليجي لأحمد الشرع هو الخوف العميق من تمدد النفوذ التركي في الشمال السوري، وتحوّل سوريا إلى دولة تابعة لأنقرة سياسيًا وعسكريًا وهي مخاوف إسرائيل أيضا.
فتركيا في نظر الرياض وأبوظبي تمثل الوجه الآخر المرفوض للإسلام السياسي، حيث يقودها حزب ذو مرجعية إخوانية، يراهن على تصدير نموذج تحالف الإسلاموية والديمقراطية إلى العالم العربي.
تخشى السعودية والإمارات أن يؤدي استمرار التمدد التركي في الملف السوري إلى إعادة تمكين التيارات الإخوانية، سواء عبر المجالس المحلية في إدلب، أو من خلال الدعم العسكري والاستخباراتي للفصائل الإسلامية المقربة من أنقرة.
كما أن وجود قوات تركية مباشرة على الأرض السورية يُنظر إليه كاحتلال ناعم يهدد سيادة سوريا ويعمق الانقسام الجيوسياسي فيها.
لذلك، فإن دعم أحمد الشرع من قِبل الخليج لا يُفهم فقط في سياق مواجهة إيران، بل أيضًا كخطوة استباقية لمنع تركيا من فرض وصايتها على مستقبل سوريا.
الإمارات تحديدًا، تنظر بعين القلق إلى محاولات تركيا لعب دور القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتسعى إلى بناء محور عربي مستقل قادر على موازنتها واحتوائها.
بالتالي، فإن الرهان على الشرع ليس رهانا على شخص، بل على كسر المعادلة التركية – الإخوانية في سوريا، وفرض توازن إقليمي جديد يُعيد دمشق إلى الفلك العربي بشكل حقيقي.