تابعنا خلال الأشهر الأخيرة سلسلة تطورات متسارعة في سوريا أبرزها اضطهاد العلويين ومن ثم الدروز الموحدين حاليا مع إصدار الإعلان الدستوري الإسلامي الذي يقصي الأقليات ويرسخ الدولة الشمولية المركزية.
رفضت القيادة السورية الجديدة مقترح النظام الفيدرالي الذي يتيح لكل إقليم سوري صلاحيات واسعة لإدارة شؤونه وتنمية منطقته تحث سيادة دمشق، وهو النظام المعمول به في الولايات المتحدة وألمانيا والهند وروسيا ودول كثيرة تتضمن ولايات وأقاليم متنوعة والكثير من العرقيات.
من جهة أخرى بدأ يتكشف الوجه الحقيقي للقيادة السورية الجديدة، سلطة دينية تريد انشاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتالي تدمير الحريات الفردية وترسيخ الإسلام السياسي السني المتشدد في البلاد.
تصاعد الاضطهاد الطائفي: العلويون والدروز تحت التهديد
منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، شهدت سوريا موجة من العنف الطائفي استهدفت بشكل رئيسي العلويين، الذين ارتبطوا بحكم عائلة الأسد لعقود.
وفقاً لتقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان، سُجلت 1562 جريمة قتل في محافظات الساحل السوري منذ ديسمبر 2024، أودت بحياة المئات، بينهم نساء وأطفال، في إعدامات ميدانية وعمليات انتقامية استهدفت العلويين تحت ذريعة “فلول النظام”.
مقاطع مصورة موثقة، نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية، أظهرت تورط عناصر تابعة للحكومة الجديدة في هذه الانتهاكات، بما في ذلك عمليات قتل جماعي وتخريب مزارات علوية في حلب.
الدروز، الذين طالما حافظوا على حياد نسبي خلال الحرب السورية، لم يسلموا من هذا العنف، ففي السويداء، وهي معقل الطائفة الدرزية، سجلت تقارير عن هجمات استهدفت قيادات دينية ومدنية في أبريل 2025، حيث راح ضحيتها أكثر من 200 قتيل على الأقل على اثر تسجيل ملفق لسب النبي محمد.
هذه الأعمال، التي يقودها متشددون ينتمون لهيئة تحرير الشام، تكشف عن نية واضحة لفرض هيمنة طائفية سنية متطرفة، تتجاهل تنوع سوريا الديني والعرقي.
وقد انتشرت مقاطع فيديو لمظاهرات سورية داعشية في مدن ذات غالبية سنية مثل دمشق تطالب بإبادة العلويين والدروز والقضاء عليهم نهائيا، ما يزيد من الاحتقان في هذا البلد الشرق الأوسطي.
أيضا شهدت منصات التواصل الاجتماعي حملات واسعة شاركت فيها حسابات مسلمين متشددين عملت على شيطنة معتقدات العلويين والدروز والتحريض ضدهم.
الإعلان الدستوري: خطوة نحو الشمولية الدينية
الإعلان الدستوري، الذي وقّعه أحمد الشرع في 13 مارس 2025، كان بمثابة إعلان رسمي لتوجهات الحكومة الجديدة.
نص الإعلان على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، وهو ما اعتُبر إقصاءً صريحاً للأقليات غير السنية، بما في ذلك العلويون، الدروز، المسيحيون، والأكراد.
على الرغم من تأكيد الإعلان على “حرية الاعتقاد” و”احترام الأديان السماوية”، إلا أن هذه العبارات ظلت حبراً على ورق، إذ لم تترجم إلى إجراءات عملية تحمي الأقليات من الانتهاكات.
الإعلان، الذي حدد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، عزز من سلطات الرئيس، مما أثار انتقادات واسعة بأنه يمهد لنظام مركزي شمولي لا يختلف كثيرا عن نظام الأسد لكن هذه المرة بصبغة دينية.
هذا التوجه أثار استياء مكونات المجتمع السوري، وخاصة الأكراد والدروز، الذين طالبوا بنظام لامركزي يضمن تمثيلهم وحقوقهم.
من جهة أخرى رفض الحكومة الجديدة لمبدأ الفيدرالية، الذي دعا إليه زعيم الطائفة الدرزية حكمت الهجري، أظهر تجاهلاً لمطالب التنوع الإثني والديني، مما ينذر بمزيد من التوترات.
رفض الفيدرالية: خطيئة سياسية تهدد وحدة سوريا
النظام الفيدرالي، الذي يمنح الأقاليم صلاحيات واسعة في إدارة شؤونهم الاقتصادية والثقافية والإدارية، كان يُنظر إليه كحل وسط للحفاظ على وحدة سوريا مع احترام تنوعها.
دول مثل الولايات المتحدة، التي تضم 50 ولاية، وألمانيا بـ16 ولاية اتحادية، تُظهر كيف يمكن للفيدرالية أن توازن بين السيادة الوطنية والحكم المحلي.
في سوريا، كان من الممكن أن يسمح هذا النظام للأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في السويداء، والعلويين في الساحل، بإدارة مناطقهم مع الحفاظ على وحدة البلاد تحت مظلة دمشق.
لكن القيادة الجديدة، بقيادة هيئة تحرير الشام، رفضت هذا المقترح بشكل قاطع، مرهف أبو قصرة، وزير الدفاع الانتقالي، أعلن في يناير 2025 أن “سوريا لن تنقسم ولن تكون هناك فيدرالية”، معتبراً أن هذا النظام يهدد وحدة البلاد.
هذا الرفض، الذي يعكس رؤية مركزية متشددة، أثار مخاوف من أن تتحول سوريا إلى ساحة صراعات إقليمية، خاصة مع وجود فصائل مسلحة تابعة للأقليات، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على مناطق نفطية استراتيجية.
الإسلام السياسي المتشدد: من الأمر بالمعروف إلى قمع الحريات
بدأت الحكومة الجديدة في اتخاذ إجراءات تكشف عن طابعها الديني المتشدد، في أبريل 2025، أعلنت وزارة الأوقاف عن تشكيل “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في دمشق وحلب، بهدف “تعزيز القيم الإسلامية”.
هذه الهيئة، التي تذكّر بممارسات طالبان في أفغانستان، بدأت بفرض قيود على اللباس والسلوك العام، خاصة في المناطق ذات الأغلبية السنية.
تقارير محلية أشارت إلى اعتقال 23 امرأة في حلب خلال شهر مارس 2025 بتهمة “عدم الالتزام بالزي الشرعي”، هذه الإجراءات أثارت استياءً واسعاً، خاصة بين الشباب والنساء، الذين خرجوا في مظاهرات محدودة قُمعت بسرعة.
على صعيد آخر، بدأت الحكومة بتطبيق قوانين شرعية صارمة في المحاكم المحلية، متجاهلة الأحوال الشخصية للطوائف غير السنية.
في اللاذقية، أُجبرت عائلات علوية على تسجيل زواجها وفق القوانين السنية، مما اعتُبر انتهاكاً لحقوقهم الدينية، هذه السياسات، إلى جانب استمرار عمليات الاعتقال التعسفي التي وثقها المرصد السوري، تشير إلى أن الحكومة تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ نظام ديني متشدد يقمع التنوع والحريات الفردية.