موقع غبي وتصميمه قديم يربح 700 مليون دولار سنويا

في عالم رقمي تتصارع فيه الشركات على لفت الأنظار بواجهات لامعة، وذكاء اصطناعي متطور، وإعلانات براقة، هناك موقع إلكتروني يقف كالديناصور وسط هذه الغابة التكنولوجية.

لن تجد فيه تصميماً أنيقاً، ولا شعارات تسويقية رنانة، ولا حتى واجهة مستخدم تجعلك تشعر أنك في 2025.

بدلاً من ذلك، ستجد خلفية رمادية مملة، روابط زرقاء بدائية، وتصنيفات تبدو كأنها كُتبت على عجل في منتصف التسعينيات.

كريغزلست (Craigslist)

لكن هذا الموقع، الذي يبدو وكأنه نسيَ أن يتطور، يجني 700 مليون دولار سنوياً، بل ورفض عرض استحواذ بقيمة 11 مليار دولار! الموقع هو كريغزلست (Craigslist).

مرحباً بك في قصة موقع أثبت أن الفكرة البسيطة يمكن أن تهزم التكلف والتعقيد.

هذه ليست مجرد قصة نجاح تجاري، بل درس في الانضباط والتركيز، وتحدٍ لكل ما نعتقد أنه “ضروري” للنجاح في عالم الأعمال اليوم.

البساطة المربكة: موقع لم يتغير منذ 1995

تأسس كريغزلست في عام 1995 على يد كريغ نيومارك كقائمة بريدية بسيطة لتوزيع إعلانات محلية في سان فرانسيسكو.

بحلول 1996، تحول إلى موقع إلكتروني، لكنه احتفظ بطابعه البدائي: روابط نصية زرقاء، تصميم عتيق يذكّر بويندوز 95، وغياب تام لأي زخرفة بصرية.

إذا زرت الموقع اليوم، ستشعر أنك عدت بالزمن إلى عصر الإنترنت الأولي، لا توجد إعلانات متلألئة، ولا نوافذ منبثقة تحثك على “الاشتراك المميز”، ولا حتى تسجيل دخول إلزامي.

الموقع عبارة عن صفحات بسيطة تتيح لك بيع أريكتك القديمة، شراء دراجة مستعملة، البحث عن شقة، أو حتى العثور على وظيفة.

لكن هذا التصميم “القبيح” ليس عيباً، بل سر نجاحه.

في 2024، بلغت إيرادات كريغزلست حوالي 700 مليون دولار، معظمها من رسوم رمزية تُفرض على إعلانات معينة مثل الوظائف أو الشقق في مدن كبرى مثل نيويورك.

في 2004، رفضت الشركة عرض استحواذ من إيباي بقيمة 11 مليار دولار، مفضلة الاستقلالية على المال الطائل، لماذا؟ لأن كريغزلست لا يهتم بأن يكون “رائعاً” أو “عصرياً”. إنه يهتم فقط بأن يكون مفيداً.

لماذا يعمل كريغزلست؟

في عالم يعج بالتطبيقات التي تتفاخر بواجهات مستخدم متطورة وميزات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، يبرز كريغزلست كنقيض لكل ذلك.

لنلقِ نظرة على الأسباب التي تجعل هذا الموقع “المتخلف” يتفوق على منافسيه:

لا تحتاج إلى فيديو ترويجي لفهم كريغزلست. الموقع واضح كالشمس: إنه سوق إلكتروني للإعلانات المبوبة.

تريد بيع شيء؟ انشر إعلاناً. تريد شراء شيء؟ ابحث في القوائم.

في 2023، استقبل الموقع أكثر من 250 مليون زيارة شهرية، وهو رقم يضعه في مصاف أكبر المواقع الأمريكية، هذا الوضوح يجعل المستخدمين يعودون دائماً، لأنهم يعرفون بالضبط ما سيحصلون عليه.

وبينما تحاول مواقع أخرى إعادة اختراع نفسها كل عام، ظل كريغزلست كما هو، لم يتحول إلى “منصة مجتمعية مدعومة بالذكاء الاصطناعي” أو “تجربة حياة متكاملة”.

هذا الثبات بنى ثقة المستخدمين. في استطلاع أجرته Statista في 2024، قال 72% من المستخدمين إنهم يفضلون كريغزلست لأنه “موثوق ويمكن التنبؤ به”.

في عالم مليء بالاحتيال عبر الإنترنت، يُعتبر كريغزلست ملاذاً نسبياً، صحيح أن الموقع ليس خالياً من المشاكل – فقد تم الإبلاغ عن حوالي 12,000 شكوى احتيال في 2023 – لكن سياساته البسيطة وتركيزه على المعاملات المحلية يقللان من المخاطر مقارنة بمنصات عالمية أخرى.

الشركات التي فشلت في القضاء على كريغزلست

على مر السنين، حاولت العديد من الشركات الناشئة إسقاط كريغزلست، معلنة نفسها “القاتل الجديد لكريغزلست”.

تطبيقات مثل OfferUp وLetgo وFacebook Marketplace جاءت بتصميمات أنيقة، تطبيقات هاتف ذكي، وميزات مثل الدردشة المدمجة والذكاء الاصطناعي لتوصية المنتجات.

لكن معظم هذه المنصات إما اندمجت أو اختفت، لماذا؟ لأنها أصيبت بمرض شائع بين رواد الأعمال: التعقيد.

خذ Letgo على سبيل المثال. عند إطلاقه في 2015، بدا واعداً بفضل تطبيقه الأنيق وتركيزه على تجربة المستخدم، لكن بحلول 2020، اندمج مع OfferUp بعد أن فشل في تحقيق ربحية مستدامة.

السبب؟ إضافة ميزات لا نهائية – من الإشعارات إلى الإعلانات المدفوعة – جعلت التجربة مربكة، في المقابل، ظل كريغزلست وفياً لفلسفته: لا تعقّد ما هو بسيط.

حتى Facebook Marketplace، رغم قوة فيسبوك الهائلة، لم يتمكن من إزاحة كريغزلست تماماً.

في 2024، استحوذ Marketplace على حصة كبيرة من سوق الإعلانات المبوبة، لكنه يعاني من مشاكل الاحتيال وتجربة مستخدم معقدة تتطلب حساباً على فيسبوك، كريغزلست، على العكس، لا يطالبك حتى بإنشاء حساب.

البساطة ليست كسلاً

يعتقد الكثيرون أن البساطة تعني الكسل، لكن الحقيقة عكس ذلك.

الحفاظ على بساطة منتج في عصر يطالبك فيه المستثمرون بإضافة المزيد من الميزات، ويدفعك السوق لمواكبة أحدث صيحات التصميم، يتطلب شجاعة وانضباطاً.

كريغزلست رفضت هذا الضغط. لم تضف ذكاءً اصطناعياً لتوصية المنتجات، ولم تُطلق تطبيقاً رسمياً متطوراً، ولم تعيد تصميم واجهتها لتبدو “عصرية”.

بدلاً من ذلك، ركزت على حل المشكلة الأساسية: ربط البائعين بالمشترين بأقل قدر من الاحتكاك.

هذا الانضباط يظهر في أرقامها. في 2023، كان لدى كريغزلست حوالي 50 موظفاً فقط، مقارنة بآلاف العاملين في منصات مثل eBay أو Amazon Marketplace.

هذا الفريق الصغير يدير موقعاً يخدم ملايين المستخدمين يومياً، مما يثبت أن الكفاءة لا تحتاج إلى جيوش من المبرمجين أو المصممين.

رفض 11 مليار دولار: قرار أم جنون؟

في 2004، عرضت إيباي شراء حصة كبيرة في كريغزلست بقيمة تقدر بـ11 مليار دولار.

كان بإمكان كريغ نيومارك وفريقه جني ثروة هائلة، لكنهم رفضوا لأنهم آمنوا بقيمة الاستقلالية.

كريغزلست ليست مجرد شركة تجارية إنها رؤية تقول إن الأعمال يجب أن تركز على المستخدم، وليس على المستثمرين أو المساهمين.

هذا القرار قد يبدو جنوناً في عالم يلهث وراء الاستحواذات الكبرى، لكنه أثبت صحته.

كريغزلست لا تزال مربحة ومستقلة، بينما منافسون مثل Yahoo! وMySpace، الذين سعوا وراء التوسع السريع، اختفوا أو أصبحوا ظلالاً لما كانوا عليه.

درس لرواد الأعمال: تجربة المستخدم مهمة جدا!

المستخدمون لا يهتمون بالابتكار بقدر اهتمامهم بالموثوقية، إذا كان منتجك يحل مشكلة بطريقة بسيطة وفعالة، فسيعودون إليك، بغض النظر عن مدى “قباحة” تصميمك.

في دراسة أجرتها Harvard Business Review في 2024، تبين أن 64% من المستهلكين يفضلون المنتجات التي تقدم تجربة “بسيطة ومباشرة” على تلك التي تتفاخر بالميزات المتقدمة.

كريغزلست هو تجسيد لهذا المبدأ، لا يحتاج المستخدم إلى دليل لاستخدامه، ولا إلى اشتراك مدفوع، ولا إلى تحديثات متكررة، إنه يعمل وهذا يكفي.