في يوم رحيل البابا فرنسيس، الـ21 من أبريل 2025، نستذكر إرثه الفكري والروحي الذي ترك بصمة عميقة في قضايا العصر.
اشتهر البابا فرنسيس بمواقفه الجريئة والإنسانية تجاه موضوعات معقدة مثل الإلحاد، الرأسمالية، اللاإنجابية، والماسونية وهي التي نستعرضها في هذه المقالة
موقف البابا فرنسيس من الإلحاد
بعد أن تولى البابا فرنسيس الراحل منصبه منذ ما يزيد قليلاً عن شهرين، تصدرت تصريحاته عناوين الصحف بتصريحاته العديدة التي شددت على الشمولية، متناقضةً بشكل صارخ مع أسلوب أسلافه، بل وحتى مع العقيدة الكاثوليكية العريقة على ما يبدو.
حيث أكد بأن جميع البشر حتى الملحدين قابلون للخلاص قائلا: “لقد افتدانا الرب جميعًا، جميعًا، بدم المسيح: جميعنا، ليس فقط الكاثوليك. جميعنا! “يا أبتِ، الملحدون؟” حتى الملحدون. جميعنا! وهذا الدم يجعلنا أبناء الله من الدرجة الأولى. لقد خُلقنا أبناءً على صورة الله، ودم المسيح افتدانا جميعًا، وعلينا جميعًا واجب فعل الخير”.
وأضاف في احدى خطبه ودروسه: “وأعتقد أن هذه الوصية للجميع بفعل الخير هي طريقٌ جميلٌ نحو السلام. إذا قام كلٌّ منا بدوره، وإذا أحسنا إلى الآخرين، وإذا التقينا هناك، عاملين الخير، وسرنا ببطءٍ ورفق، شيئًا فشيئًا، فسنُرسخ ثقافة اللقاء: نحن في أمسّ الحاجة إليها. يجب أن نلتقي ببعضنا البعض ونفعل الخير، “لكنني لا أؤمن يا أبتِ، أنا ملحد!” لكن افعل الخير: سنلتقي ببعضنا البعض هناك”.
فورًا، أعلنت عناوين الصحف العالمية حينها: “حتى الملحدون يستطيعون دخول الجنة” كانت صدمة لبعض المسيحيين المتشددين والمحافظين.
حاولت الدعاية الفاتيكانية التخفيف من الضجة الإعلامية، ومع ذلك، كانت هذه الملاحظة مثالاً آخر على سعي البابا للتواصل مع جمهور يتجاوز الكنيسة بكثير.
سبق للبابا أن قال إن الملحدين يمكن أن يكونوا “حلفاء ثمينين” في بناء التعايش السلمي بين الشعوب وفي حماية الخليقة بعناية.
موقف البابا فرنسيس من الإلحاد والملحدين يتطابق مع موقف بعض المتصوفين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين أكدوا على أن الملحدين الأخيار هم جزء من النور الإلهي.
تجديد الخطاب الديني المسيحي
على عكس سلفه، البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي اتسم أسلوبه بالدقة اللاهوتية والتحفظ، ونظرة أكثر تشاؤمًا تجاه الحداثة العلمانية، تبنى فرنسيس نهجًا يتسم بالبساطة والإنسانية.
كان خطابه يشبه إلى حد كبير كاهن رعية يتحدث إلى أبناء رعيته بحميمية، ساعيًا إلى بناء جسور حوار مع المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء.
هذا النهج، الذي غالبًا ما أثار قلق المكتب الصحفي للفاتيكان بسبب ميله إلى الارتجال بعيدًا عن النصوص المُعدة مسبقًا، عكس رؤية فرنسيس لكنيسة منفتحة، ترحب بالجميع وتتحدث بلغة يفهمها الناس العاديون.
وكانت خطب فرنسيس تتسم بنبرة حوارية دافئة، يمزج فيها بين الروحانية والواقعية. لم يتردد في مشاركة قصص شخصية من حياته، مثل ذكرياته عن والدته وجدته، أو حتى تجاربه كشاب في الأرجنتين.
هذه الحكايات المنزلية لم تكن مجرد وسيلة للتقرب من الجمهور، بل كانت تعكس فلسفته اللاهوتية التي ترى الله في التفاصيل اليومية للحياة البشرية.
على النقيض، كانت خطب بنديكتوس السادس عشر، بكل دقتها الأكاديمية، تركز على تعزيز الهوية الكاثوليكية في مواجهة ما رآه تهديدات العلمانية والنسبية الأخلاقية، هذا التباين بين الرجلين يعكس رؤيتين مختلفتين لدور الكنيسة: الأولى دفاعية، والثانية انفتاحية.
طوال فترة حبريته، عمل فرنسيس على تجديد الخطاب المسيحي، محاولًا إخراجه من لغة القوقعة التي اتسمت بها في بعض الأحيان، والتي كانت تحمل نبرة عدائية تجاه العالم العلماني الليبرالي.
سعى إلى استبدال هذا الخطاب بلغة الرحمة والحوار، مؤكدًا أن الكنيسة ليست حصنًا منغلقًا، بل “مستشفى ميداني” يعتني بالجرحى الروحيين والاجتماعيين.
هذا التحول كان له أثر كبير في جعل المسيحية تبدو أكثر إيجابية وانفتاحًا، لا سيما عند مقارنتها بالإسلام، الذي لا يزال العديد من قادته يترددون في تبني خطوات مماثلة نحو تجديد الخطاب الديني أو الانخراط في حوار مفتوح مع العالم الحديث.
موقف البابا فرنسيس من الرأسمالية
من القضايا الأخرى التي ركّز عليها البابا فرنسيس الفقر والظلم الاقتصادي، مما دفع بعض المحللين الماليين إلى وصفه بمعادٍ للرأسمالية.
قال في أحد خطاباته: “لقد علّمتنا الرأسمالية الجامحة منطق الربح مهما كلف الأمر، والاستغلال دون مراعاة الأشخاص”.
وانتقد بشدة “عبادة المال”، وقال إن أصل الأزمة المالية العالمية هو غياب “الأخلاقيات التي تتمحور حول الإنسان في عالم المال والاقتصاد”.
وأشار أيضًا إلى أنه “إذا انخفضت الاستثمارات في البنوك قليلاً، فهذه مأساة… ولكن إذا مات الناس جوعًا، أو إذا لم يكن لديهم ما يكفي من الطعام أو لم يكونوا بصحة جيدة، فلا يهم”.
انتقد فرنسيس بقوة ما أطلق عليه “عبادة المال”، وهي النزعة التي تجعل السعي وراء الثروة هدفًا نهائيًا يطغى على الاعتبارات الإنسانية. في وثيقته الرسولية “فرح الإنجيل” (Evangelii Gaudium) عام 2013، أشار إلى أن الأزمات المالية العالمية تنبع من غياب “الأخلاقيات التي تتمحور حول الإنسان في عالم المال والاقتصاد”.
لم يقتصر نقد فرنسيس على الخطابات العامة، بل تجلى في مواقفه العملية. دعا مرارًا إلى إعادة توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة، وحث الدول والمؤسسات الاقتصادية على وضع سياسات تضع الإنسان في صلب اهتماماتها.
في رسالته العامة “كلنا إخوة” (Fratelli Tutti) عام 2020، دعا إلى اقتصاد يخدم الجميع، لا الأقلية الثرية، مشددًا على أن السوق وحده لا يمكن أن يحل جميع المشكلات الاجتماعية. كما دعم مبادرات مثل الاقتصاد الاجتماعي، الذي يركز على الاستدامة والتضامن، وشجع الشباب على الانخراط في مشاريع اقتصادية تعزز الكرامة البشرية.
موقف البابا فرنسيس من الماسونية
حافظت الكنيسة الكاثوليكية على موقف معارض للماسونية، معتبرة إياها غير متوافقة مع العقيدة المسيحية بسبب طابعها السري، فلسفتها العلمانية، وبعض المبادئ التي تُنظر إليها على أنها تتعارض مع الإيمان الكاثوليكي.
هذا الموقف، الذي أُكد في وثائق مثل إعلان الكرسي الرسولي عام 1983، استمر خلال حبرية فرنسيس دون تغيير جوهري.
لم يصدر البابا فرنسيس وثائق رسمية جديدة بشأن الماسونية، لكنه ألمح في مناسبات متفرقة إلى تحفظه تجاه المنظمات التي تعزز أيديولوجيات أو ممارسات قد تضعف الإيمان الكاثوليكي أو تزرع الانقسام.
في إحدى خطبه عام 2016، حذر من “الجماعات التي تعمل في الظل”، مشددًا على أهمية الشفافية والانفتاح في الحياة الروحية والاجتماعية، وإن لم يذكر الماسونية صراحة، فإن هذه التصريحات فُسرت من قبل بعض المحللين على أنها إشارة ضمنية إلى منظمات مثل الماسونية، التي تُعرف بطابعها السري.
ومع ذلك، يتميز نهج فرنسيس بالتركيز على الحوار والرحمة بدلاً من المواجهة المباشرة، على عكس بعض أسلافه الذين أصدروا إدانات قوية للماسونية، مثل البابا ليو الثالث عشر في القرن التاسع عشر
في الوقت نفسه، حافظ فرنسيس على موقف الكنيسة التقليدي الذي يمنع الكاثوليك من الانضمام إلى الماسونية، كما أكدت وثيقة الكرسي الرسولي لعام 1983 التي صدرت في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والتي اعتبرت عضوية الكاثوليك في المنظمات الماسونية “غير متماشية” مع الإيمان المسيحي.
خلال حبريته، لم يتراجع فرنسيس عن هذا الموقف، لكنه لم يجعله محور خطابه، مفضلاً التركيز على دعوته للكنيسة لتكون “مستشفى ميداني” يعالج الجراح الروحية والاجتماعية بدلاً من خوض معارك أيديولوجية.
موقف البابا فرنسيس من اللاإنجابية
تقليديًا، تعارض الكنيسة الكاثوليكية اللاإنجابية كخيار متعمد، معتبرة الإنجاب جزءًا أساسيًا من دعوة الزواج المسيحي وتعبيرًا عن الانفتاح على الحياة.
في إحدى خطبه عام 2015، انتقد فرنسيس ما أسماه “ثقافة الرفاهية” التي تشجع الأزواج على تفضيل الراحة المادية على إنجاب الأطفال، مشيرًا إلى أن اختيار عدم الإنجاب بدافع الأنانية أو السعي وراء نمط حياة مترف يتعارض مع القيم المسيحية.
قال في هذا السياق: “الزواج الذي لا ينفتح على الحياة هو زواج ناقص، لأن الإنجاب هو ثمرة الحب ومشاركة في عمل الله الخالق”، ومع ذلك، أضاف أن هذا لا يعني أن على كل زوجين إنجاب عدد كبير من الأطفال، مشيرًا إلى أهمية “الأبوة المسؤولة”.
في رسالته العامة “فرح الحب” (Amoris Laetitia) عام 2016، دعا إلى دعم العائلات من خلال سياسات اجتماعية تساعد على تخفيف هذه الضغوط، مثل توفير رعاية صحية وتعليم ميسور التكلفة، معتبرًا أن المجتمع يتحمل مسؤولية مشتركة في خلق بيئة مواتية للإنجاب.
على الرغم من تأكيده على أهمية الإنجاب، تجنب فرنسيس إدانة الأفراد الذين يختارون اللاإنجابية، مفضلاً التركيز على الحوار وفهم دوافعهم. في إحدى مقابلاته، شدد على أن قرارات كهذه غالبًا ما تكون نتيجة ظروف معقدة، وليست دائمًا تعبيرًا عن الأنانية.
لُقّب فرانسيس بالفعل بأول بابا عالمي إذ يتجاوز تركيزه أوروبا والعالم المتقدم، وقد ركز على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول العالم الثالث خلال ولايته.