في خطوةٍ تُضاف إلى سجل الابتكارات الحكومية السورية، أعلنت وزارة الأوقاف عن إنشاء “مديرية الرقية الشرعية”، وذلك لمواجهة ما وصفته بـ”الأوبئة الروحية” التي تعصف بالبلاد.
وفي حين يعاني المواطن السوري من أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة، يبدو أن الحكومة قررت التصدي لمسببات هذه الأزمات من جذورها الروحية.
وفقًا لتقارير إعلامية، نظمت المديرية حديثًا دورة تطويرية لرؤساء الدوائر والشُعب في مديريات الأوقاف بالمحافظات، بهدف “تحسين أدوات التعامل مع الواقع، ويبدو أن الواقع المقصود هنا ليس سوى الجن والعين والسحر.
نعم، لسنا في أروقة الأزهر أو في أحد مجالس رقاة اليوتيوب، بل في سوريا 2025، حيث اجتمعت العقول المدبرة تحت مظلة وزارة الأوقاف لتنظيم دورة “تطويرية” لـ”رؤساء دوائر الرقية الشرعية”، حملت عنوانًا لا يقل صدمةً عن محتواها: “الرقية الشرعية وأثرها في مواجهة الأوبئة الروحية التي تهدد أمن وسلامة المجتمع”.
فيما يعتقد المواطن السوري العادي أن أسباب تدهور الليرة وانعدام الكهرباء وندرة الخبز تعود للحصار الاقتصادي، والفساد المستشري، والسياسات الكارثية، تكشف لنا هذه المديرية أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، فهناك “جن معارض”، وعين حاسدة، وسحر مدفون في زوايا الوطن هو من يعيث فيه الخراب.
هكذا تتحول الأزمة السورية من صراع سياسي–اقتصادي إلى معركة روحية بين “الحق القرآني” و”الطاقة السلبية”، وقد لا يُستبعد مستقبلاً أن نرى بيانات عسكرية تعلن تطهير مناطق من “الجن” بدل “الإرهابيين”، أو إصدار سندات خزينة مغطاة بـ”سورة البقرة”.
الندوة، التي رُوّج لها عبر صفحات وزارة الأوقاف، تضمنت محاور استثنائية: “دور الرقية في الحد من آثار الحسد على الإنتاج”، “كيف تحصّن دائرة حكومية من العين”، و”التعامل الشرعي مع سحر المسؤولين”.
وجرى الحديث عن دور الرقية في الاستقرار الاجتماعي والنفسي، وهو مصطلح إداري جديد يعني – على ما يبدو – تكميم الأفواه بالقرآن بدل الأمن السياسي.
ولم تخلُ الدورة من الجانب التطبيقي، حيث عُرضت طرق النفث الجماعي، وتحليل ميداني لأثر قراءة سورة الفاتحة على انخفاض نسبة الطلاق!
التحول المثير للجدل إلى دولة تُدار بالتمائم القرآنية بدلاً من الدساتير المدنية يفتح أبوابًا كثيرة للسخرية، لكنه أيضًا يكشف الوجه الحقيقي للمرحلة الحالية: نظام سياسي يعيش في قوقعة ما قبل الحداثة، ويحاول التعامل مع واقع معقد بأدوات من العصر العباسي.
ماذا بعد الرقية؟ هل سنشهد إنشاء وزارة “كشف البصيرة والفتاحين”؟ هل سيفرض قانون بمنع الحملات الانتخابية دون وضوء؟ هل تُصبح جلسات مجلس الشعب مشروطة بـ”التحصين الجماعي ضد الحسد”؟
تخيل عزيزي المواطن، أنك بعد عشر سنوات من الجوع، الفقر، النزوح، والانهيار، تُخبرك حكومتك أن كل ما حدث لك كان بسبب “عين حاسدة أصابتك يوم كنت تبتسم في صورة بروفايلك”، أو “جن يسكن حنفية الماء في مطبخك”.
الرسالة واضحة: لا فساد، لا سوء إدارة، لا محسوبيات. فقط أنت، وروحك المكشوفة، وعين جارك، وخادمة حسودة، وبئر مهجور فيه أثر لسحر قديم.
والآن، جاء من ينقذك: مديرية الرقية الشرعية، بقيادة جيش من الشيوخ الذين يحملون بدل الحاسوب مصحفًا، وبدل البرنامج الاقتصادي… زجاجة ماء مقروء عليه.
المديرية ليست مزحة، هي إعلان رسمي عن مشروع طويل الأمد لتحويل الأزمة السورية من مأساة بشرية إلى معركة روحية، ومن فشل حكومي إلى مؤامرة غيبية، وهو نموذج مكرر لما يحدث حين تسقط الأنظمة في العبث، وتلجأ لشيطنة الواقع بدلاً من تغييره.
الهدف واضح: إلهاء الشعب، تحويل غضبه إلى دعاء، وتمرير الخطايا الكبرى تحت مظلة الدين، فبدل أن يسأل المواطن عن حقوقه، يُقترح عليه أن يحصن نفسه، وبدل أن يطالب بالمحاسبة، يُطلب منه أن يغتسل بماء زمزم.
في هذا الصدد نناشد “السادة الرقاة” في المديرية الجديدة أن يُسارعوا إلى تطهير البنك المركزي من “جن التضخم”، وتحرير وزارة التموين من “سحر الرفوف الفارغة”، وفكّ ربط وزارة الكهرباء بـ”قرين إبليس”، وألا ينسوا رقية جماعية للرئيس… فربما هو الآخر محسود!
أما الشعب السوري، فعليه الآن أن يضيف إلى مطالبه “جلسة رقية جماعية شهرية”، تُبث على التلفزيون الرسمي، برعاية زيت زيتون مقروء عليه من الجامع الأموي.