الهندوسية ليست مجرد دين، بل هي أسلوب حياة وفلسفة متجذرة في تاريخ الهند منذ آلاف السنين، تُعد من أقدم الديانات في العالم، وتتميز بتنوعها اللافت في المعتقدات والطقوس.
يؤمن الهندوس بالخالق الأوحد “براهمان”، وهو الجوهر الكوني الذي يتجلى في أشكال مختلفة مثل الآلهة فيشنو (المحافظ)، شيفا (المدّمر والمُجدد)، ودورغا (الإلهة الأم)، هذه الآلهة هي محور العبادة في الهندوسية، ويتم التعبير عن هذه العبادة من خلال الصلوات، الطقوس المختلفة..
لكن، إذا كانت الآلهة هي محور العبادة، فلماذا ارتبطت الحيوانات مثل البقر والفئران بالهندوسية في أذهان البعض؟ الإجابة تكمن في السياق الثقافي والرمزي الذي يُسيء المسلمون فهمه ويردده رجال الدين الذين يفترض بهم معرفة أعمق للمعتقدات الأخرى!
البقرة: رمز الحياة وليست إلهًا
في الهندوسية، تُعتبر البقرة رمزًا مقدسًا للحياة والعطاء، هذا التقديس لا يعني أن الهندوس يعبدون البقر كما يعبدون الآلهة، بل يعبرون عن احترام عميق لدورها في حياتهم.
في المجتمع الهندي التقليدي، كانت البقرة مصدرًا أساسيًا للرزق: حليبها يُستخدم لإنتاج الزبدة، الجبن، واللبن، وروثها يُستخدم كسماد طبيعي أو حتى كوقود في القرى.
كما كانت البقر تُستخدم في الحراثة قبل ظهور الآلات الزراعية الحديثة. لهذه الأسباب، أُطلق على البقرة لقب “غاو ماتا” (الأم البقرة)، لأنها تُعطي بلا مقابل، تمامًا كالأم التي تُغذي أبناءها.
هل هذا يعني أن الهندوس يسجدون للبقر أو يقدمون لها القرابين؟ بالطبع لا، البقرة ليست إلهًا، ولا توجد طقوس دينية في الهندوسية تُكرس لعبادة البقر مباشرة.
الاحترام يظهر في أشكال أخرى، مثل منع ذبحها في العديد من الولايات الهندية، أو إطعامها في المناسبات الخاصة، أو حتى تخصيص أماكن لرعايتها، هذا الاحترام هو جزء من فلسفة الهندوسية التي ترى الحياة والخير في كل الكائنات، وليس عبادة بالمعنى الديني.
عباد الفئران: قصة معبد واحد وليس دينًا بأكمله
أما بالنسبة للفئران، فالارتباط يأتي من قصة معبد كارني ماتا في ولاية راجستان، المعروف باسم “معبد الفئران”.
في هذا المعبد، يتم الاعتناء بآلاف الفئران ويُعتبر وجودها مباركًا، لكن هذا لا يعني أن الهندوس يعبدون الفئران كآلهة!
القصة ترتبط بأسطورة محلية تتحدث عن الإلهة كارني ماتا، وهي شخصية مقدسة في المنطقة، وفقًا للأسطورة، أرواح أتباع كارني ماتا تتجسد في الفئران، لذا يتم الاعتناء بها كجزء من التقدير لهذه الإلهة وليس كعبادة للفئران نفسها.
معبد كارني ماتا هو حالة خاصة جدًا، ولا يمثل ممارسات الهندوس ككل، الهندوسية تضم مئات الملايين من الأتباع، وتشمل آلاف الطوائف والتقاليد المحلية.
اختزال هذا التنوع في قصة معبد واحد هو ظلم كبير للدين وأتباعه، تخيل لو أن شخصًا زار قرية نائية في بلد عربي وشاهد طقسًا غريبًا، ثم قرر أن يعممه على كل العرب، هذا بالضبط ما يحدث عندما يُطلق البعض لقب “عباد الفئران” على الهندوس.
من أين جاءت خرافة الهندوس عباد البقر والفئران؟
عبارات مثل “عباد البقر” و”عباد الفئران” تنبع من عدة مصادر، أولًا، هناك سوء الفهم الثقافي.. في بعض الثقافات، قد يبدو احترام حيوان معين غريبًا أو مبالغًا فيه.
على سبيل المثال، في المجتمعات التي لا تعتمد على البقر كمصدر رزق، قد يُنظر إلى منع ذبحها كأمر غير منطقي، لكن في السياق الهندي، هذا الاحترام له جذور اقتصادية واجتماعية عميقة.
ثانيًا، تلعب وسائل الإعلام والصور النمطية دورًا كبيرًا. غالبًا ما تُبرز الأخبار أو الأفلام الغربية صورًا مبالغ فيها عن الهند، مثل شوارع مزدحمة بالبقر أو معبد الفئران، دون شرح السياق. هذه الصور تترسخ في أذهان الناس، وتُشكل انطباعات خاطئة.
ثالثًا، هناك أحيانًا نية للإساءة أو التهكم، عبارات مثل “عباد البقر” قد تُستخدم كأداة للسخرية من ثقافة مختلفة، خاصة في سياقات الصراعات السياسية أو الدينية، هذا النوع من الخطاب لا يُعزز سوى الجهل والانقسام.
رابعا في الأوساط الإسلامية لطالما وصف رجال الدين الهندوس بأنهم عباد البقر والفئران، جهلا أو عمدا وقد ترسخت هذه الخرافة في عقول المحافظين الذين لا يريدون التحقق من تلك المعلومات من خلال سؤال اتباع الهندوسية أو الإطلاع على معتقداتهم من مواقعهم ومنصاتهم الرقمية.
الهندوسية وفلسفة احترام الحياة
لكي نفهم لماذا تُحترم البقر أو حتى الفئران في بعض السياقات، يجب أن ننظر إلى الفلسفة الأساسية للهندوسية. الهندوسية تؤمن بمبدأ “أهيمسا”، أي عدم الإيذاء.
هذا المبدأ يدعو إلى احترام جميع الكائنات الحية، لأنها تُعتبر جزءًا من الخليقة الإلهية، البقرة، بما تقدمه من عطاء، تُجسد هذا المبدأ بشكل خاص، لكن الاحترام يمتد إلى كل أشكال الحياة.
على سبيل المثال، في بعض التقاليد الهندوسية، ترتبط حيوانات أخرى بالآلهة، مثل النسر (مركبة فيشنو) أو الأفعى (رمز شيفا).
لكن هذه الحيوانات ليست آلهة، بل رموز تُستخدم للتعبير عن فكرة دينية أو فلسفية، نفس الشيء ينطبق على البقر والفئران.
تشويه الهندوسية في النصوص الإسلامية
يعتمد الخطاب الإسلامي الديني المحلي على تشويه الشرائع والعقائد والأديان الأخرى، مثلا يقال أن عزير ابن الله عند اليهود وهذا غير صحيح، بوذا إله البوذيين وهناك من يزعم أنه نبي والحقيقة البوذية فلسفة إنسانية خالصة بلا إله، وقس على ذلك نظرتهم إلى بقية الشرائع.
لكي نوقف انتشار هذه الصور النمطية، يجب أن نبدأ بتغيير طريقة حديثنا عن الثقافات الأخرى، استخدام عبارات مثل “عباد البقر” أو “عباد الفئران” ليس فقط غير دقيق، بل يُسيء إلى ملايين البشر الذين يتبعون دينًا عريقًا، بدلاً من ذلك، يمكننا أن نتحدث عن الاختلافات الثقافية باحترام وفضول.
خرافة “عباد البقر والفئران” ليست سوى سوء فهم تاريخي وثقافي، الهندوس لا يعبدون البقر ولا الفئران، بل يحترمون الحياة بكل أشكالها، والبقرة بالنسبة لهم هي رمز للعطاء والوفرة، بينما قصة الفئران هي تقليد محلي محدود، الهندوسية دين عميق ومتنوع، وثقافة ثرية للغاية ويبدو أن هذا هو سبب شيطنتها.