
في صباح منعش من شهر ديسمبر 2024 في تبليسي، تستيقظ المدينة على جوقة من الأصوات ترتفع من قلب ساحة الحرية، لقد بدأت واحدة من أعظم احتجاجات جورجيا.
وبينما تلقي الشمس أشعتها الذهبية على الحجر القديم، يتجمع حشد متنوع صغار وكبار، آباء وأمهات مع أطفالهم، وطلاب يحملون لافتات تعلن آمالهم وأحلامهم، هذه ليست مجرد احتجاج آخر، إنها صرخة وطنية، ونبض جماعي يردد صدى الرغبة في التغيير.
لماذا يشتعل هؤلاء المواطنون الجورجيون بالغضب والأمل؟ تحكي أعينهم قصة شوق إلى مستقبل منسوج في نسيج أوروبا، ولكن أيضًا صراعًا كامنًا ضد ظلال الطغيان الروسي والماضي العتيق.
أسباب احتجاجات جورجيا
بدأت هذه الإحتجاجات في 28 نوفمبر 2024، بعد قرار الحكومة بتأجيل مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028.
إن فهم حجم هذه الاحتجاجات يتطلب النظر من خلال عدسة التاريخ، فجورجيا، تلك الأمة التي ولدت من جديد في رماد الحكم السوفييتي، ظلت ترقص منذ زمن طويل بين الشرق والغرب.
ولا تزال ندوب الماضي المضطرب باقية حيث إرث الصراع مع جارتها القوية روسيا، ومع ذلك، فإن الأمل الذي لا يمكن إنكاره يسكن قلوبهم، وهو اعتقاد بأن التكامل الأوروبي هو المسار الصحيح لهم.
تخيل أنك تقف في مكان مواطن جورجي عادي صاحب محل بقالة يتذكر التجمعات العائلية المليئة بالضحك في السنوات الماضية، والتي طغت عليها الآن حالة الركود السياسي.
هذا شعب يتوق إلى التغيير، واليوم يجتمعون ليس فقط لسماع صوتهم بل ولإعادة تعريف روايتهم، وتنسج خيوط أحلامهم معًا بخيوط الديمقراطية والحرية ومستقبل غير ملوث بالقمع.
دور الاتحاد الأوروبي في احتجاجات جورجيا
مع تصاعد الهتافات إلى سيمفونية من العزم، يلوح دور الاتحاد الأوروبي في الأفق، فهل تستجيب أوروبا؟ تدور الأسئلة مثل أوراق الخريف التي تحاصرها هبة من الرياح.
ويمثل احتضان الاتحاد الأوروبي المدروس لجورجيا الوعد والإحباط في الوقت نفسه، وبالنسبة للعديد من الناس، يرمز هذا إلى تذكرة إلى مستقبل أكثر إشراقا، ولكن متى سيتم التحقق من صحة هذه التذكرة؟ إن المواطنين هناك يتوقون إلى الوضوح والإعلان عن خريطة طريق نحو القبول في الحظيرة الأوروبية.
في غرفة المؤتمرات الصحفية في الطرف الآخر من المدينة، يتداول المسؤولون الذين يرتدون البدلات الرسمية، وتلتقط الكاميرات الصور، وتخدش الأقلام، ولكن في الخارج، يطن الهواء بالاستعجال.
والناس ليسوا مجرد مراقبين سلبيين، بل إنهم يلقون ضوءا حادا على المناقشات الحكومية، “نحن هنا”، هكذا تتعالى أصواتهم، “ولن نتجاهل”.
تتضمن مطالب المحتجين إجراء انتخابات برلمانية جديدة وإطلاق سراح المعتقلين الذين تم القبض عليهم خلال الاحتجاجات السابقة. كما يعبر المتظاهرون عن رغبتهم في حياة كريمة تحترم حقوقهم الثقافية والسياسية.
الشعب الجورجي يريد الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي
ومع استمرار الاحتجاجات، فإن التداعيات الجيوسياسية تتدفق إلى الخارج، فكيف ستفكر روسيا؟ يراقب الكرملين بعين حذرة، مدركاً أن موجات التغيير في جورجيا قد تكون بمثابة منارة للسخط على حدوده، والمخاطر عالية، ليس فقط بالنسبة لجورجيا، بل وأيضاً بالنسبة للمنطقة ككل.
بالنسبة لمواطني تبليسي، فإن كل هتاف، وكل خطوة نحو البرلمان، هي خطوة نحو مستقبل غير مؤكد، فهم لا يطالبون بمكانهم داخل أوروبا فحسب؛ بل يؤكدون هويتهم على خلفية مشهد جيوسياسي سريع التغير.
وقصتهم ليست قصتهم فحسب بل إنها تتردد عبر الحدود، وتتردد صداها مع أولئك في المجر وأوكرانيا وخارجها، الذين يسعون أيضاً إلى الإبحار في البحار العاصفة للتحول السياسي.
تتطلع شعوب شرق أوروبا إلى الحرية والديمقراطية لهذا تريد الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي الذي أثبت نجاحه، والدول فيه تزدهر في الديمقراطية الغربية على عكس الإستبداد الشرقي الذي تقوده روسيا والصين.
وهذا ما يقلق موسكو التي ترفض انضمام الدول المستقلة عنها إلى الإتحاد الأوروبي، حيث تعتبر ذلك تهديدا بالنسبة لها ومنها تهديد نظامها السياسي الإستبدادي وسيرغب الشعب الروسي في تغيير النظام الروسي السائد حاليا.
أهمية توقيت احتجاجات جورجيا المؤيدة للاتحاد الأوروبي
تتزامن الاحتجاجات المستمرة في جورجيا مع لحظة حاسمة في تاريخ البلاد، حيث يعبر المواطنون عن استيائهم من قرار الحكومة بتأجيل مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028.
تاريخياً، يسعى الجورجيون للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ استقلالهم عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وقد تم منح جورجيا وضع المرشح للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي في ديسمبر 2022، مما زاد من آمال المواطنين في تحقيق هذا الهدف.
ومع ذلك، فإن قرار الحكومة الأخير بوقف المحادثات حول الانضمام يُعتبر خيانة لهذه الآمال، ورغم أن الحكومة تنفي أي ارتباط بالروس، إلا أن تصرفاتها تثير الشكوك حول نواياها الحقيقية
وتأتي هذه الإحتجاجات في وقت تعاني فيه روسيا من خسائر فادحة في أوكرانيا إضافة إلى هزيمة حليفها بشار الأسد في سوريا.
وتواجه موسكو تحديات متزايدة في ظل هذه التطورات إضافة إلى الإدارة الأمريكية الجديدة التي ترغب في إحلال السلام بأوكرانيا في أسرع وقت.
كيف تهدد احتجاجات جورجيا نفوذ روسيا؟
تعتبر الإحتجاجات المستمرة في جورجيا بمثابة تهديد مباشر لنفوذ روسيا في المنطقة، حيث يعبر المتظاهرون عن رغبتهم في تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، مما يتعارض مع الأهداف الروسية.
هذه الاحتجاجات تتزامن مع تصاعد القلق من توغل روسيا في الشؤون الجورجية، خاصة بعد قرار الحكومة الجورجية بتأجيل محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028.
تاريخياً، كانت جورجيا هدفًا للنفوذ الروسي، وقد احتلت روسيا أجزاء من أراضيها بعد النزاع في عام 2008، الآن، يرى المحتجون أن الحكومة الحالية، بقيادة حزب “الحلم الجورجي”، تسعى لإعادة البلاد إلى الفلك الروسي من خلال سياسات تعتبرها جماعات المعارضة غير ديمقراطية.
إذا تمكنت روسيا من إعادة جورجيا إلى دائرة نفوذها، فقد يؤدي ذلك إلى تداعيات سلبية على الدول المجاورة مثل أرمينيا، التي تسعى لتعزيز علاقاتها مع الغرب، هذا التحول قد يشجع روسيا على توسيع نفوذها في منطقة القوقاز
الاحتجاجات تمثل أيضًا رسالة قوية للدول الأخرى التي تسعى للابتعاد عن موسكو، إن نجاح حركة الاحتجاج في جورجيا يمكن أن يشجع حركات مشابهة في دول أخرى من جمهوريات ما بعد الإتحاد السوفيتي التي تعاني من ضغوط روسية.