يُروج في الويب العربي لفكرة أن الإلحاد مسؤول عن أكبر المجازر في التاريخ، حيث تزعم العديد من المقالات أن الأنظمة الإلحادية ارتكبت جرائم تفوق بكثير تلك التي ارتُكبت باسم الأديان.
من بين هذه المقالات، نجد مقالًا نشره موقع الجزيرة بعنوان “الإلحاد والعنف.. كيف صنع ملحدون أهم مجازر العالم وحروبه؟”، والذي يعزز السردية القائلة بأن الإلحاد يقود إلى العنف والدموية.
في هذا المقال، سنفكك هذه المزاعم ونستعرض الحقيقة حول علاقة الإلحاد بالمجازر التاريخية، مستندين إلى تحليل علمي وموضوعي بعيدًا عن التحيزات الفكرية.
الإلحاد ليس منظومة عكس الدين
غالبًا ما يُعزى العنف في المسيحية والإسلام إلى تعاليم تلك الديانات، إذ يتجذر في نصوصها المقدسة ويتجلى في تاريخها. ورغم أن الحروب والجرائم المرتكبة باسم الله غالبًا ما تكون مدفوعة بأهداف غير دينية، كالمكاسب السياسية والتوسع الإقليمي، فإن الدين يُستخدم كأداة تبرير فعالة لهذه الأفعال، مما يمنحها شرعية أخلاقية في نظر أتباعه.
لا يقتصر دور الأديان على تبرير العنف، بل تقدم وعودًا عظيمة لمعتنقيها، مثل الجنة والنعيم الأبدي، حيث لا جوع ولا معاناة، وكل ما تشتهيه الأنفس، هذه الوعود تجعل المؤمن مستعدًا للموت من أجل شيء لم يره قط، لكنه يثق بوجوده إيمانًا مطلقًا.
يُعد الإسلام من أكثر الديانات التي جمعت بين التبرير الديني والوعود الأخروية، وهو ما ساهم في انتشاره السريع عبر الفتوحات، من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا، ثم إلى إسبانيا غربًا والصين شرقًا.
لا ينطبق الأمر نفسه على الإلحاد لمجرد أنه ليس دينًا، الإلحاد هو انعدام الإيمان بالآلهة، ليس له مبادئ عقائدية حاكمة، ولا قواعد ثابتة، ولا أيديولوجية جوهرية.
إن مقارنة الإلحاد بالدين أشبه بمقارنة التفاح بالبرتقال، من الأجدى مقارنة الإلحاد بالإيمان بالله، وهو ببساطة الإيمان بوجود إله.
الإيمان بالله أو الكفر به لا يكفي لارتكاب الجرائم
مع أن بعض المؤمنين يعتنقون معتقدات أصولية، إلا أن مجرد الإيمان بوجود إله لا يكفي لإشعال الحروب والعنف بناءً على هذا الإيمان وحده.
كم حربًا أشعلها الإيمان بالله؟ ستحتاج إلى معتقدات عقائدية إضافية لتحقيق ذلك، الإيمان بالإله لا يحرض في حذ ذاته على العنف كما هو حال الكفر به.
لا أحد يرتكب جرائم قتل جماعي باسم التوحيد أو الإلحاد وحده، بل ثمة حاجة لمبادئ عقائدية إضافية لتبرير هذه النتائج المروعة.
في حالة التوحيد، تُقدم أديان مثل المسيحية والإسلام مثل هذه العقائد، مُخَلِّقةً أعذارًا مناسبة، تشترك الأنظمة الشمولية العلمانية والدين في هذا العنصر العقائدي: الاعتقاد بصحة مجموعة من الأفكار لمجرد أن شخصيةً سلطويةً تُصرّح بذلك، وأن التشكيك في هذه الأفكار قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بل وحتى مميتة.
حقيقة الملحدين التي يجهلها المؤمنين
ليس من المعقول القول إن الإلحاد يُغض الطرف عن العنف أو يُشجّع عليه، أو أن الطغاة قد مارسوا القتل باسم الإلحاد، مثل هذه الأفعال، سواءً أكانت جيدة أم سيئة، لا تُمثّل الإلحاد عمومًا، ولا يُمكن أن تُمثّله، إذ لا يوجد ملحدان يحملان بالضرورة نفس المعتقدات أو القناعات حول العالم.
القاسم المشترك الوحيد بين جميع الملحدين هو عدم الإيمان بالآلهة، بعضهم عدميين ولا يرون أي قيمة أو معنى لوجودهم، وآخرين وجوديين مؤمنين بالمعنى في الحياة والهدف الأسمى وحتى أن بعضهم مثل البوذيين يؤمنون بالتناسخ وتعدد الحيوات والذي ينتهي بالوصول إلى حالة أسمى من الوعي ثم لا يعود إلى هذه الحياة حيث هناك معاناة.
هذا يعني أن بعض الملحدين بلا شك قساة وعدوانيون وعنيفون، كما يعني أن بعض الملحدين طيبون وودودون ومسالمون.
يمكن لأي شخص أن يكون ملحدًا، تمامًا كما يمكن لأي شخص أن يكون غير مهتم بلعبة الجولف، مجرد كون بعض غير لاعبي الجولف حمقى لا يجعل عدم ممارسة الجولف أمرًا سيئًا، تمامًا كما لا يمكن إلقاء اللوم على الإلحاد في سلوك حفنة من الملحدين.
إذا كنت تحاول اتخاذ قرار بشأن إيمانك بالله بناءً على سلوك شخص غير مؤمن تعرفه، فأنت تستخدم منطقًا خاطئًا، وللسبب نفسه، ليس كل المتدينين أشخاصًا سيئين أو قساة، ومع ذلك فإن ممارسة العنف والحرب متأصلة بعمق في العديد من الأيديولوجيات الدينية.
لذلك، من الأفضل فحص آرائك حول الله أو المعتقدات الدينية الأخرى من خلال تقييم الأدلة المقدمة لمثل هذه الادعاءات، وليس بناءً على سلوك الأشخاص الذين يقبلونها أو لا يقبلونها كحقيقة.
يتصور عادة المؤمنين أن الملحدين كلهم جماعة متفقة فكريا وعقائديا ولديهم نفس التوجهات وهذا غير صحيح، ما يجمعهم بالتأكيد هو انكار وجود إله.
ما الدافع وراء جرائم ماو تسي تونغ وستالين؟
صحيح أن الأنظمة الشيوعية الاستبدادية لماو وستالين عارضت الدين، حيث قُوِّضَت المعتقدات الدينية وعُوقِبَت في ظل حكمهما.
لم يكن لهذا علاقة بالإلحاد بقدر ما كان له علاقة بتهديد الدين كمنافس لمخططاتهما الاستبدادية، فالأنظمة الشمولية مبنية على العقيدة والخوف، لا على حرية التعبير والبحث.
وبهذه الطريقة تشبه الدين إلى حد كبير الذي يأمر بالسماع والطاعة ولا يعتبر الجدال والنقاش بوابة لفتن الفلاسفة والعقلانيين، في الواقع ابتكر هؤلاء القادة الأديان وفرضوا أنفسهم في القمة كآلهة جديدة.
اعتمد ماو تسي تونغ وستالين على القومية، وعادة ما يكون القوميون عنصريون فهم ليسوا فحسب وطنيون بل متعصبون لوطنهم لدرجة أن كل ما هو مختلف أو مهاجر يجب اقصاءه، وهذه فلسفة النازية التي وظفت عداوة المسيحية لليهود وكانت ستفعل الأمر ذاته مع المسلمين لو كان لهم وجود بكثرة في ألمانيا حينها، مع العلم أنها تركز على تمجيد العرق الآري.
وكما قال سام هاريس: “مشكلة الفاشية والشيوعية ليست في نقدهما المفرط للدين، بل في تشابههما الشديد مع الأديان”، لا تنبع مشكلتهما هذه من الإلحاد، ومن الصعب أن نتصور كيف يمكن للمرء أن يجادل بأن أنشطتها كانت تُمثل الملحدين ككل.
في الواقع، تُعتبر العديد من الدول الحرة غير الدينية، مثل الدنمارك والسويد من بين أكثر دول العالم سلمًا وازدهارًا، مع ذلك، ليس المقصود القول إن الإلحاد بالضرورة يُفضي إلى سعادة الناس أو ازدهارهم.
لكن الواضح هو أن الإلحاد لا يؤدي إلى العنف أو الاستبداد أو الإبادة الجماعية، تمامًا كما أن التدين لا يضمن أمة مسالمة ومزدهرة.
لدى أديان العالم قواعد وكتب مقدسة تُعلّم أتباعها ما هو الخطأ والصواب وكيف يتصرفون، لذا من المنطقي محاسبة أي دين على الرسالة التي يُبشر بها، في المقابل لا توجد كتب مقدسة للملحدين، ولا بابا ملحد، ولا طقوس أو مبادئ أو عقائد أو قواعد أو سلطة ملحدة.
لا يُمكن محاسبة الإلحاد على أنشطة الملحدين بنفس الطريقة التي يُحكم بها على الدين من خلال عقيدته، لأنه لا عقائد له، إنه ليس منظومة فكرية كما هو حال الأديان.
هل الأنظمة الإستبدادية الملحدة ارتكبت جرائم باسم الإلحاد؟
غالبًا ما يُتهم الإلحاد بالمسؤولية عن جرائم الأنظمة الشمولية مثل الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، والصين في عهد ماو تسي تونغ، وكمبوديا تحت حكم الخمير الحمر.
ويستشهد المدافعون عن هذه الفكرة بعدد الضحايا الذين سقطوا خلال تلك الفترات، معتبرين أن الإلحاد كان المحرك الأساسي لهذه الفظائع، لكن هل ارتُكبت هذه الجرائم حقًا باسم الإلحاد؟
في الواقع، لم تكن عمليات القمع والإبادة الجماعية التي ارتكبتها هذه الأنظمة مدفوعة بفلسفة الإلحاد بحد ذاته، بل كانت نتيجة أيديولوجيات سياسية شمولية سعت إلى فرض سيطرة مطلقة على المجتمع.
لم تكن الإبادة الجماعية، والمعسكرات القسرية، والمجاعة القسرية تهدف إلى نشر الإلحاد، بل كانت أدوات لخنق أي معارضة سياسية وترسيخ السلطة المطلقة للحزب الحاكم.
على العكس من ذلك، نجد أن هذه الأنظمة لم تكن تحارب الدين لمجرد الإلحاد، بل لأنها كانت تعتبره تهديدًا لسلطتها، فالقادة الشموليون لم يرغبوا في وجود أي منافس قد يحشد الولاء الشعبي ضدهم، سواء كان دينًا، أو قومية مختلفة، أو حتى أيديولوجية أخرى.
إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد أن الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة الشيوعية أو الديكتاتوريات العلمانية لا تختلف في آلياتها وأهدافها عن تلك التي ارتكبتها الأنظمة الدينية عبر العصور، الفرق الوحيد أن الأديان أضفت شرعية دينية على العنف، بينما استندت الأنظمة الإلحادية إلى القومية والمنظومات الفكرية العنصرية التوسعية.