في ليلةٍ لم يتخيلها أحد، تحولت حانات دمشق تلك الملاذات الترفيهية التي ظلت تنبض بالحياة حتى في ظل الحرب إلى مسرحٍ غير متوقع لاحتفالات الإسلاميين بسقوط بشار الأسد.
بعد عقودٍ من الصراع، وضع مقاتلون ملتحون، كانوا يومًا ما يرفعون شعارات الجهاد، أسلحتهم جانبًا ليرقصوا تحت أضواء خافتة، محاطين بالشباب العصريين وأكواب الكوكتيل في حانات دمشق.
في حانة “Sugar Man”، التي يديرها كيفاح زيني، تجسدت هذه اللحظة السريالية: ثوارٌ كانوا يخشون منهم أصبحوا جزءًا من ليلة احتفالية، تاركين وراءهم الفتاوى ليشاركوا في رقصة النصر، فكيف حدث هذا التحول المذهل في قلب العاصمة السورية؟
ليلة النصر في حانة “Sugar Man“
في اليوم الذي فر فيه بشار الأسد من دمشق في ديسمبر 2024، تحولت شوارع العاصمة السورية إلى كرنفالٍ صاخب، لكن المفاجأة الحقيقية لم تكن في الشوارع، بل داخل جدران حانة “Sugar Man”، وهي واحدة من أشهر الملاذات الليلية في دمشق.
كيفاح زيني، الشاب البالغ من العمر 34 عامًا والذي يدير الحانة بأسلوب عصري يمزج بين الجينز المغسول والكوكتيلات المبتكرة، قرر أن يحتفل بالحدث على طريقته.
تلك الليلة، كانت الموسيقى تعلو، والكؤوس تتراقص في أيدي الزبائن، لكن ظل هاجس ينغص فرحته: هل سيقبل الحكام الجدد — الثوار الإسلاميون ذوو الخلفية المحافظة — باستمرار أماكن مثل حانته؟ في إدلب، حيث حكموا سابقًا، كانوا قد حظروا الكحول تمامًا لكن تلك الليلة كانت مختلفة.
اتجه الكثير من السوريين في تلك الليلة إلى الحانات البالغ عددها 60 في العاصمة السورية للإحتفال بسقوط نظام بشار الأسد الذي اتضح أنه مكروه حتى في أهم مدينة سورية.
استقبل أهالي العاصمة الثوار والقوات الإسلامية التي دخلت إلى المدينة بدون أي قتال يذكر وبينما اتجه الكثير من الإسلاميين إلى المسجد الأموي كان هناك من الثوار من ذهبوا إلى الحانات.
إسلاميون في حانة “Sugar Man“
بعد عشرة أيام من سقوط النظام، طرق باب “Sugar Man” زائران غير عاديين: رجلان ملتحيان يحملان بنادق، يبدوان كأنهما خرجا للتو من معركة في الجبال.
سألاه بلهجة رسمية إن كان يملك رخصة لتقديم الكحول، كيفاح، الذي اعتاد تحت حكم الأسد على دفع غرامة رمزية قدرها دولاران كل بضعة أشهر لتجاوز هذا السؤال، لم يكن يملك تلك الرخصة.
وللعلم فإن القانون السوري القديم منذ 1952 يشترط أن تكون الحانة على بعد أكثر من 100 متر من مدرسة أو موقع ديني، وهو شرط مستحيل في قلب دمشق القديمة، حيث لم تُصدر السلطات رخصًا جديدة منذ عقود.
لكن بدلاً من الخوف، اتخذ كيفاح قرارًا جريئًا: دعاهم للدخول، بشرط أن يتركوا أسلحتهم خارجًا ولدهشته وافقا.
ما حدث بعد ذلك كان يشبه مشهدًا من مسرحية عبثية، الرجلان، اللذان قد يكونان من رجال الحكومة أو مجرد ميليشيات مقربة منها خلعا ستراتهما العسكرية وانضما إلى الحشد.
في فيديو التقطه كيفاح على هاتفه وشاركه لاحقًا مع NPR، يظهر الاثنان يرقصان بابتسامات عريضة، محاطين بمجموعة من الشباب العصريين الذين كانوا يحتسون المشروبات ويتبادلون الضحكات.
“كان الأمر غريبًا جدًا، كأنه فن أدائي، كأن بن لادن رقص معنا!” يقول كيفاح ضاحكًا، تلك اللحظة، التي جمعت بين مقاتلين كانوا يومًا ما يمثلون الخوف والقمع وبين جيل دمشقي يعشق الحياة، بدت وكأنها رمز لسوريا جديدة، حيث يمكن للأضداد أن تلتقي، ولو لليلة واحدة.
توتر قصير وتفاؤل متجدد
لم تدم هذه الروح الاحتفالية طويلاً دون تحديات، ومؤخرا حاولت السلطات الجديدة فرض رؤيتها المحافظة، فقامت بإغلاق 60 حانة في دمشق، بما في ذلك “Cosette” التي تديرها نوين محمود، بحجة عدم وجود تراخيص.
لكن الرد جاء سريعًا وحاسمًا: احتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي ومناشدات إلى محافظ دمشق أجبرت الحكومة على التراجع في أقل من 24 ساعة.
بالنسبة لكيفاح، كان هذا دليلاً على أن الإسلاميين، رغم جذورهم المتشددة، قد يضطرون للتكيف مع واقع دمشق المتنوع: “شعرنا أننا نستطيع التواصل معهم، إذا ما مددنا أيدينا”، يقول: “إنهم سوريون في النهاية!”
ما حدث في “Sugar Man” لم يكن مجرد ليلة عابرة من المرح، بل لحظة كاشفة عن الصراع الذي يواجهه قادة سوريا الجدد — أولئك الذين كانوا يومًا على صلة بتنظيم القاعدة — وهم يحاولون التوفيق بين قيمهم الإسلامية المحافظة وأسلوب الحياة العلماني المتجذر في المدن الكبرى.
في إدلب، نجحوا في فرض حظر الكحول، لكن دمشق، بتاريخها الطويل من التعايش والليالي الصاخبة حتى في أحلك لحظات الحرب، أثبتت أنها لن تستسلم بسهولة.
رقصة الثوار الملتحين مع رواد الحانات لم تكن مجرد صدفة، بل إشارة إلى أن سوريا الجديدة قد تتشكل بمزيج غريب من التناقضات، حيث يمكن للكأس أن يصبح رمزًا للنصر بقدر ما كانت البندقية يومًا ما.
مرجع صحفي اعتمدنا عليه لكتابة هذه القصة.