لطالما ارتبط اسم الماسونية بالشر وعبادة الشيطان، لكن قليلين يعرفون أن العديد من هذه الخرافات لم تكن سوى خدعة ضخمة دبّرها رجل واحد: ليو تاكسيل.
هذا الصحفي الفرنسي استطاع أن يخدع العالم لعقدٍ من الزمن بسلسلة أكاذيب ضخمة حول الماسونية، مدّعيًا أنها منظمة شيطانية تمارس طقوسًا مروعة.
فما القصة الحقيقية وراء هذه الخدعة؟ وكيف تمكن تاكسيل من التلاعب بالرأي العام حتى اعترف بنفسه بأن كل ما نشره كان مجرد تلفيق متعمد؟
من هو ليو تاكسيل؟ لمحة عن حياته
ولد ليو تاكسيل، واسمه الحقيقي غابرييل أنطوان جوغاند-باجيس، في فرنسا عام 1854، ونشأ في بيئة متأثرة بالصراعات الفكرية بين الإلحاد والدين.
منذ شبابه، أظهر ميولًا قوية نحو معاداة الدين، وكتب العديد من المقالات التي تهاجم الكنيسة الكاثوليكية، مما جعله شخصية مثيرة للجدل.
بدأ تاكسيل حياته ككاتب ساخر وناقد شرس للدين، حيث كان معروفًا بمواقفه المعادية للمسيحية في شبابه، نشر كتبًا ومقالات تهكمية على الكنيسة الكاثوليكية، مما دفع السلطات الدينية إلى ملاحقته أحيانًا بسبب آرائه الجريئة.
لكن في عام 1885، أحدث تحولًا مفاجئًا بإعلانه اعتناق الكاثوليكية والتوبة عن إلحاده، وبدأ في نشر كتب ومقالات تدعم الكنيسة وتهاجم الماسونية، مدعيًا أنه كان عضوًا سابقًا في المحافل الماسونية وكشف “أسرارها الشيطانية”.
لكن، وكما سيظهر لاحقًا، لم يكن تحول تاكسيل سوى جزء من أكبر خدعة إعلامية في التاريخ، حيث استغل تعطش الكنيسة لقصص تدين الماسونية، وألف مجموعة من الأكاذيب التي ظلت تؤثر في الرأي العام حتى يومنا هذا.
كيف بدأت حملة الأكاذيب ضد الماسونية؟
بعد أن أعلن ليو تاكسيل تحوله المفاجئ إلى الكاثوليكية عام 1885، بدأ حملة تضليل ممنهجة ضد الماسونية، مستغلًا حالة العداء بين الكنيسة الكاثوليكية والمحافل الماسونية آنذاك.
استغل تاكسيل هذا الصراع ليقدم نفسه كـ”منشق تائب” يكشف “الحقائق الخفية” عن الماسونية، مما جعله مصدرًا موثوقًا لدى رجال الدين والجماهير المتدينة.
بدأ تاكسيل بتأليف كتب ومقالات زاعمة أن الماسونية ليست مجرد منظمة سرية، بل طائفة مرتبطة بعبادة الشيطان، ادعى أن أعضاءها ينخرطون في طقوس شيطانية سرية، ويؤدون قرابين بشرية للشيطان “لوسيفر”، مما أثار موجة من الذعر الأخلاقي في أوروبا.
لقيت هذه الادعاءات دعمًا قويًا من الفاتيكان، خاصة بعد أن أصدر البابا لاون الثالث عشر منشورًا بابويًا عام 1884 يدين فيه الماسونية ويصفها بأنها قوة معادية للمسيحية، استغل تاكسيل هذا الموقف لتعزيز أكاذيبه، مقدمًا نفسه كشاهد عيان يكشف “المؤامرة الكبرى” ضد الكنيسة.
لتعزيز مصداقيته، اخترع تاكسيل شخصية ديانا فوغان، وهي امرأة زعم أنها “كاهنة شيطانية سابقة” في المحافل الماسونية، قبل أن تتوب وتهرب لتكشف للعالم عن الجرائم المروعة التي تجري داخل هذه المحافل.
نشر سلسلة من الرسائل المنسوبة لها، والتي تضمنت قصصًا خيالية عن لقاءات مع الشيطان نفسه داخل محافل الماسونية.
ساعدت الصحافة في نشر أكاذيب تاكسيل، حيث أثارت قصصه الرعب والفضول، مما زاد من شعبيته، أصبحت كتبه، مثل “أسرار الماسونية الكاملة”، من الأكثر مبيعًا في أوروبا، واستمر في تأليف المزيد من الأعمال التي تعزز الصورة “الشيطانية” للماسونية، مما جعل الناس مقتنعين تمامًا بصحة رواياته.
مشكلة الكنيسة مع الماسونية التي استغلها تاكسيل
لم يكن العداء بين الكنيسة الكاثوليكية والماسونية جديدًا أو وليد اللحظة، بل كان صراعًا ممتدًا لقرون، قائمًا على الاختلافات العقائدية، والتنافس على النفوذ، والتوجهات السياسية المتعارضة.
هذا العداء شكل الأرضية المثالية التي استغلها ليو تاكسيل، حيث عرف كيف يُغذي المخاوف القائمة لدى الكنيسة والجماهير المتدينة من أجل الترويج لأكاذيبه.
كانت الماسونية من أوائل الحركات التي دعمت فصل الدين عن الدولة، وهو ما اعتبرته الكنيسة تهديدًا مباشرًا لنفوذها في أوروبا.
بينما كانت الكنيسة تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها السياسية والروحية، كانت المحافل الماسونية تدعو إلى حرية الفكر، والديمقراطية، والمساواة، مما جعل رجال الدين يرون فيها قوة معادية تهدف إلى تقويض الإيمان المسيحي.
كانت الكنيسة قد اتخذت موقفًا عدائيًا رسميًا ضد الماسونية منذ عام 1738، عندما أصدر البابا كليمنت الثاني عشر مرسومًا يحرم انضمام الكاثوليك إليها، واصفًا إياها بأنها “خطر على الإيمان المسيحي”.
تبعه البابا لاون الثالث عشر، الذي في منشوره البابوي “الماسونية البشرية” عام 1884، وصف الماسونيين بأنهم أعداء الكنيسة ويخدمون أجندة معادية للإله.
وكانت الكنيسة تدافع عن الرق والعبودية وحكم الملكية التي تستمد شرعيتها من الدين المسيحي وتشيطن الديانات الأخرى، وهي أمور تختلف فيها الماسونية التي فتحت أبوابها لمفكرين يهود ومسلمين وحتى الربوبيين الذين لا يؤمنون بالدين ولكن يعتقدون بوجود خالق.
أدرك تاكسيل أن الكنيسة بحاجة إلى “شاهد من الداخل” يعزز مزاعمها حول شيطانية الماسونية، وهكذا قدَّم نفسه كـ”تائب نادم”، زاعمًا أنه كان ماسونيًا سابقًا اكتشف الجانب المظلم للماسونية وهرب ليكشف الحقيقة.
أشهر الأكاذيب التي نشرها تاكسيل عن الماسونية
استطاع ليو تاكسيل أن يخدع الكنيسة والجماهير المتدينة لسنوات عبر نشر سلسلة من الأكاذيب والقصص الملفقة عن الماسونية، معتمدًا على تصعيد نظريات المؤامرة، وتوظيف الرموز الدينية، واختلاق شخصيات وأحداث خيالية.
فيما يلي أشهر الأكاذيب التي روج لها:
- زعم تاكسيل أن الماسونيين ليسوا مجرد منظمة فلسفية أو اجتماعية، بل طائفة سرية تمارس عبادة الشيطان.
- ادعى أن هناك طقوسًا سرية تُقام داخل المحافل، حيث يتم استدعاء الشيطان “لوسيفر” وتقديم القرابين له.
- نشر روايات مزيفة عن مراسم ماسونية مزعومة تتضمن السجود أمام تمثال الشيطان، وطقوس دموية تُفرض على الأعضاء الجدد.
- اخترع شخصية وهمية تُدعى “ديانا فوغان”، وادعى أنها كانت كاهنة شيطانية داخل المحافل الماسونية قبل أن تتوب وتكشف الحقيقة.
- نشر مذكرات مزيفة منسوبة إليها، تضمنت قصصًا عن طقوس غريبة يُمارسها الماسونيون، مثل إقامة قداسات سوداء والتواصل مع الشيطان.
- من أغرب أكاذيب تاكسيل، ادعاؤه أن الماسونيين يمتلكون مقرًا سريًا ضخمًا تحت سطح البحر، حيث يُقيمون اجتماعاتهم السرية بعيدًا عن أعين العالم.
- روج لنظرية المؤامرة التي تدعي أن الماسونية منظمة يهودية تهدف إلى القضاء على الكنيسة الكاثوليكية ونشر الإلحاد.
- ادعى أن هناك تحالفًا سريًا بين الماسونيين والحاخامات اليهود يعمل على إفساد المجتمعات المسيحية من خلال نشر أفكار علمانية وإلحادية.
- هذه الأكاذيب عززت انتشار معاداة السامية في أوروبا، وربطت الماسونية باليهودية في الخطابات المتطرفة.
- زعم تاكسيل أن الماسونية تتضمن طقوسًا جنسية شاذة، حيث يُجبر الأعضاء الجدد على الانخراط في علاقات غير أخلاقية كجزء من ولائهم للمنظمة.
- اخترع قصصًا عن قداسات سرية يتم فيها تبادل الزوجات والانحرافات الجنسية، مما أثار ذعر المجتمع الكاثوليكي المحافظ.
- زعم أن الماسونيين يزرعون العملاء في الحكومات ويخططون لإقامة نظام عالمي جديد يحكمه عبدة الشيطان.
إلى يومنا هذا لا تزال هذه النظريات رائجة ويعتمد عليها المخدوعين من أجل نسج قصص من خيالاتهم حول الماسونية دون تقديم دليل على ذلك.
اعتراف تاكسيل بالخدعة الكبرى
بعد سنوات من نشر الأكاذيب والأساطير حول الماسونية، بلغ الأمر ذروته في عام 1897، حينما نظم ليو تاكسيل مؤتمرًا صحفيًا مثيرًا حضره رجال دين وصحفيون من مختلف أنحاء أوروبا.
في تلك اللحظة المفصلية، أعلن تاكسيل صراحة أن كل ما قدمه عن الماسونية لم يكن إلا اختلاقًا متعمدًا، وقد صُنع بهدف تحقيق الشهرة والمكاسب المالية، وليس لإبراز حقيقة ما لم يكن موجودًا.
اعتُبر هذا الاعتراف بمثابة ضربة قوية للكنيسة الكاثوليكية، التي كانت قد استفادت من روايات تاكسيل في توطيد موقفها العدائي تجاه الماسونية.
كما تعرض تاكسيل لانتقادات لاذعة من الصحفيين والجمهور، الذين شعروا بالخداع بعد أن صدقوا قصصه المبهرة، مما أدى إلى انهيار مصداقيته الإعلامية.
رغم الاعتراف الصادم، استمرت بعض نظريات المؤامرة في الانتشار، إذ وجد بعض الأفراد صعوبة في التخلي عن الروايات التي كانت تؤيد معتقداتهم المسبقة.
وإلى يومنا هذا لا يزال العرب يترجمون من كتبهم ومؤلفاته وهم بالكاد لا يعرفون حقيقته، كما أن الكثير من الكتاب العرب الذين كتبوا روايات وكتب عن مؤامرات الماسونية استمدوا القصص من كتاباته وقاموا بتعديلها وتطويرها.
ولا يختلف هذا عن بروتوكولات حكماء صهيون التي يعتقدون أنها صحيحة وهي وثيقة مزيفة قد أوضحنا سابقا حقيقتها ودورها في الإضطهاد الأوروبي لليهود ومحرقة النازية.