في عام 2017، كتبتُ أكثر من مئة مقالة ناقشت فيها بعمق أزمة الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية التي اجتاحت فيسبوك، لم تكن تلك مجرد ظاهرة رقمية مزعجة، بل كنت أراها نذير خطر يهدد المجتمعات من الداخل.
يومها لم أكتفِ بالتنظير، بل قررت حذف حسابي الشخصي على فيسبوك رغم آلاف المتابعين والأصدقاء، كنت الشخص العربي الوحيد تقريبًا الذي انضم لحملة إعلامية غربية واسعة تطالب بإصلاح فيسبوك، في وقت كان فيه العالم العربي صامتًا ولاهياً عن هذه الأزمة التي كنت أراها جوهرية وخطيرة.
ما أحزنني آنذاك حقيقة هو الصمت العربي، تجاهل مريع للمعركة الفكرية والإعلامية التي كانت تحتدم في الغرب، بدا وكأن العرب لا يدركون أن ما يحدث في الفضاء الرقمي سيتحول عاجلاً أم آجلاً إلى وقائع دامية على الأرض.
واليوم، ها هي سوريا تدفع الثمن، ما حدث في الساحل السوري مؤخرًا، ثم اشتباكات جرمانا بين الدروز والحكومة، لم تكن مجرّد حوادث معزولة، كانت انعكاسًا لوضع إعلامي فوضوي، سمح للإشاعات أن تتحول إلى فتيل اقتتال، وللتحريض أن يتجاوز الشاشة ليشعل الواقع.
فيسبوك تحوّل – للأسف – إلى مسرح للحشد والتجييش، وحاضنة لمعلومات خاطئة تهدد بتفجير النسيج الاجتماعي ومذلك منصات مثل اكس وتيك توك.
لكن هل الحل هو حجب فيسبوك التي يستخدمها السوريون أكثر من بقية المنصات الاجتماعية؟ لو سُئلت هذا السؤال في 2017، لربما أجبت بنعم، متأثرًا بوعيي الحاد آنذاك بخطورة فيسبوك، أما اليوم، وقد تغيّر الوعي وتعمّقت الرؤية، فأنا أرفض الحجب تمامًا.
ليس دفاعًا عن المنصة بل دفاعًا عن المبدأ، أنا ليبرالي أؤمن بحرية التعبير، حتى حين تكون مؤلمة أو خطيرة، لأن قمع المنصات ولو مؤقتًا هو اعتراف بالعجز، وتنازل عن حقنا في أن نُربي أنفسنا ونُصلح بيئتنا الرقمية بأنفسنا.
فيسبوك ليس الشيطان بل هو مرآة، ومن ينظر فيها يرى نفسه، أنتم المستخدمون من تصنعون المحتوى وتختارون التفاعل مع المنشورات، أنتم من تقررون مشاركة الأكاذيب أو التحقق من صحتها، المنصة لا تخلق الفتنة، بل أنتم من تمنحونها الشرعية والمجال.
تميل الخوارزميات إلى ابراز المنشورات التي يتفاعل الناس معها سواء كانوا حقيقيين أو ذباب إلكتروني، المهم في النهاية تنجح وتجذب المشاهدات والأنظار ويتفاعل الناس معها.
الحجب يعفي الناس من المسؤولية ويخلق وهمًا زائفًا بالأمان، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في الإنترنت، بل في العقول.
السوريون اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يتحملوا مسؤولية اختياراتهم الإعلامية، أو يواصلوا دفن رؤوسهم في الرمال، حتى يستفيقوا على حرب أهلية جديدة.
أقولها بوضوح: حجب فيسبوك في سوريا ليس حلاً، بل هو فخ وهروب من مواجهة الذات، إذا أردتم إنقاذ ما تبقى من وطنكم، فابدؤوا من هواتفكم، توقفوا عن مشاركة الإشاعات، وابدأوا بتثقيف أنفسكم، ارفضوا التحريض وادعموا الحقائق، لا تجعلوا من وسائل التواصل الاجتماعي شماعة تعلقون عليها فشلكم الجماعي.
من الضروري لمنشئي المحتوى الغيورين على بلدهم تدقيق الحقائق ونفي الشائعات بسرعة وكل يعمل من موقعه ويمكن التعاون بين الحسابات المختلفة لخلق التفاعل مع الحقيقة.
أضف إلى ما سبق أنه لا تزال شبكات التواصل الاجتماعي المتنفس الوحيد لنقل الانتهاكات وتوثيق الجرائم، ما يُنشر على منصات التواصل من صور ومقاطع تُظهر التعذيب، الاعتقالات العشوائية، القصف، الإعدامات، والتجاوزات الأمنية؛ ليس “تحريضًا”، بل تاريخ يُكتب بلحظة وقوعه، إنها وثائق حية في زمن تموت فيه العدالة قبل أن تولد.
وسائل الإعلام الحكومية، بل وحتى الإقليمية، لا تنقل شيئًا من هذه الانتهاكات إلا إذا كانت من خصومها السياسيين، كما كانت تفعل من قبل مع بشار الأسد والآن تغض معظمها الطرف على الإنتهاكات التي تمارسها حكومة الشرع.