التضخم ليس ظاهرة حديثة كما يعتقد الكثيرون، بل هو جزء من تاريخ البشرية منذ استخدام اعملات الذهب والفضة، وذلك حتى قبل أن تتطور الأنظمة النقدية والمالية وتتبنى الفائدة البنكية.
في عالم اليوم، أصبحت سعر الفائدة أحد الأدوات الرئيسية التي تستخدمها البنوك المركزية للسيطرة على التضخم، وهي أداة مالية قوية لم تكن موجودة في الأنظمة المالية والنقدية القديمة.
في هذا المقال، نسلط الضوء على أكبر أزمات التضخم في عصر النقود والعملات التي صنعت من الذهب والفضة والتي تعامل بها الناس.
التضخم ليس ظاهرة حديثة
التضخم ليس ظاهرة حديثة، بل هو ظاهرة اقتصادية قديمة، لكن طرق قياسه والتعامل معه تطورت عبر الزمن. على الرغم من أن المصطلح نفسه لم يكن مستخدمًا في العصور القديمة، فإن ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة النقود كانا موجودين منذ بدأ البشر في استخدام العملات.
لكن هناك 3 أسباب وراء اعتقاد الناس أن التضخم ظاهرة حديثة:
الربط بالنظام المالي الحديث: يعتقد البعض أن التضخم نشأ مع الاقتصاد الحديث بسبب ارتباطه بالسياسات النقدية وأسعار الفائدة.
عدم وجود بيانات تاريخية دقيقة: لم تكن هناك مقاييس دقيقة لمعدل التضخم في العصور القديمة مثل المؤشرات التي نستخدمها اليوم.
ظهور البنوك المركزية: مع تطور البنوك المركزية وأدوات التحكم النقدي، أصبح التضخم أكثر وضوحًا كظاهرة اقتصادية قابلة للقياس والسيطرة.
التضخم ليس مجرد عيب في النظام الاقتصادي الحديث، بل هو جزء أساسي من تطور الأنظمة المالية عبر التاريخ، منذ اللحظة التي بدأ فيها البشر باستخدام النقود كوسيلة للتبادل، ظهرت مشاكل فقدان القيمة، وارتفاع الأسعار، وتراجع القوة الشرائية.
ومع ذلك، لا يزال الكثيرون يعتقدون أن التضخم ظاهرة حديثة مرتبطة فقط بالرأسمالية أو بالسياسات النقدية للبنوك المركزية، لكن هذا ليس صحيحًا.
على الرغم من أن التضخم أصبح أكثر وضوحًا وتنظيمًا في العصر الحديث بفضل تطور البنوك المركزية والنظام المالي، إلا أنه ليس اختراعًا حديثًا، بل ظاهرة اقتصادية قديمة شهدتها جميع الحضارات.
الفرق الوحيد هو أن الأدوات التي نستخدمها اليوم لقياس التضخم والتحكم فيه لم تكن موجودة في الماضي، لكن تأثيره كان دائمًا مدمرًا على الاقتصادات والمجتمعات.
أزمات التضخم في العصور القديمة
شهدت العديد من الحضارات القديمة أزمات تضخم كبيرة أثرت على اقتصادها وسكانها، وهنا بعض الأمثلة المفصلة مع التواريخ:
التضخم في الإمبراطورية الرومانية (القرن الثالث الميلادي)
خلال القرن الثالث الميلادي، واجهت الإمبراطورية الرومانية واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها، وكان التضخم النقدي أحد أبرز سماتها.
بدأت الأزمة عندما قرر الأباطرة تقليل نسبة الفضة في الديناريوس (العملة الفضية الرومانية) لتمويل الحروب والنفقات الحكومية.
في عهد الإمبراطور كاراكلا (211-217 م)، خُفّضت نسبة الفضة في العملة إلى أقل من 50٪.
بحلول عهد الإمبراطور غالينوس (253-268 م)، وصلت نسبة الفضة إلى 5٪ فقط، مما أدى إلى انهيار قيمة الديناريوس وارتفاع الأسعار بشكل جنوني.
بحلول عام 300 م، كانت العملة الرومانية قد فقدت قيمتها تمامًا، مما دفع الإمبراطور ديوكلتيانوس (284-305 م) إلى إصدار “مرسوم الأسعار القصوى” في محاولة يائسة للسيطرة على الأسعار، لكنه فشل، واندلعت اضطرابات اجتماعية بسبب التضخم المتزايد.
التضخم في الدولة العباسية (القرن التاسع الميلادي)
شهدت الدولة العباسية في أوائل القرن التاسع تضخمًا ملحوظًا نتيجة التلاعب بالعملة والتوسع في سك النقود.
في عهد الخليفة المأمون (813-833 م)، بدأ سك الدراهم الفضية والدنانير الذهبية بكميات كبيرة، ما أدى إلى زيادة المعروض النقدي وانخفاض قيمة العملة.
مع تزايد المعروض من النقود، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية بشكل كبير، مما أثر على الطبقات الفقيرة.
اضطر التجار إلى رفع الأسعار لمواكبة انخفاض القوة الشرائية للعملة، ما أدى إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية.
التضخم في غرب إفريقيا في عهد منسا موسى (1324 م)
واحدة من أكثر حالات التضخم إثارة في التاريخ حدثت خلال رحلة الحج التي قام بها منسا موسى، إمبراطور إمبراطورية مالي، إلى مكة في عام 1324 م.
منسا موسى كان أحد أغنى الرجال في التاريخ، وعندما مر عبر القاهرة أثناء رحلته إلى الحج، أنفق كميات هائلة من الذهب.
وزّع الذهب بسخاء على الفقراء، واشترى السلع الفاخرة، وسدّد ديون بعض التجار، مما أدى إلى ضخ كمية هائلة من الذهب في الاقتصاد المحلي.
النتيجة كانت كارثية حيث بسبب وفرة الذهب المفاجئة، فقدت العملة الذهبية قيمتها، وارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل هائل، ما تسبب في تضخم غير مسبوق استمر أكثر من 10 سنوات حتى استطاع الاقتصاد استيعاب الفائض النقدي.
التضخم في الصين خلال عهد سلالة يوان (1271-1368 م)
في عهد سلالة يوان المغولية في الصين، حدث أحد أول أشكال التضخم الناتج عن طباعة النقود الورقية.
كانت الصين من أوائل الدول التي استخدمت الأوراق النقدية بدلاً من العملات المعدنية، وكانت الحكومة تطبع كميات كبيرة منها لتمويل نفقاتها.
بحلول منتصف القرن الرابع عشر، أدى الإفراط في الطباعة إلى انخفاض كبير في قيمة العملة، مما تسبب في ارتفاع حاد في الأسعار.
فقد التجار الثقة في العملة الورقية، وعادوا إلى استخدام الذهب والفضة، ما أدى إلى أزمة مالية وانهيار اقتصادي.
التضخم في أوروبا خلال الثورة السعرية (القرن السادس عشر)
في القرن السادس عشر، شهدت أوروبا موجة ضخمة من التضخم نتيجة تدفق كميات هائلة من الذهب والفضة من المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، فيما يعرف بـ “الثورة السعرية”.
بين عامي 1500 و 1600 م، استوردت إسبانيا أكثر من 180 طنًا من الذهب و16000 طن من الفضة من أمريكا الجنوبية، ما أدى إلى زيادة هائلة في المعروض النقدي.
ارتفعت الأسعار في جميع أنحاء أوروبا بنسبة 400% خلال القرن السادس عشر، وكانت المواد الغذائية من أكثر السلع تأثرًا.
هذا التضخم أثر بشدة على الفقراء، حيث لم تواكب الأجور ارتفاع الأسعار، مما أدى إلى تفاقم التفاوت الطبقي.
الذهب والفضة: هل كانا حقًا ملاذًا آمنًا ضد التضخم؟
لآلاف السنين، كانت المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة تُستخدم كوسيلة للتبادل وقاعدة للأنظمة النقدية، وبفضل ندرتها وقيمتها الذاتية، احتفظت هذه المعادن بقوتها الشرائية لفترات طويلة، ما جعلها تبدو مقاومة للتضخم مقارنة بالعملات الورقية الحديثة.
لكن حتى في ظل هذا النظام، كان هناك تضخم يحدث بسبب اكتشافات جديدة للذهب والفضة، كما حدث في عهد منسا موسى أو خلال الثورة السعرية في أوروبا.
رغم كون الذهب والفضة نادرين نسبيًا، فإن أي زيادة مفاجئة في المعروض منهما كانت تؤدي إلى انخفاض قيمتهما وارتفاع الأسعار، ما يشير إلى أن حتى الأموال المعدنية الذهبية والفضية ليست محصنة ضد التضخم.