الليبرالية هي الأصل، وكل إنسان يولد حرا، غير مقيّد بعقائد مسبقة أو أوامر سلطوية، لكن بين لحظة الميلاد وسنوات النضج، تبدأ عملية الترويض، حيث تسعى المجتمعات المحافظة إلى قولبة الفرد ومحو استقلاليته، وزرع الخوف في قلبه من الخروج عن السرب.
هذه المجتمعات المحافظة هي التي صنعت أشخاصا تابعين خائفين، وفي صراع دائم مع جوهرهم الحقيقي، يقمعون تفضيلاتهم وأفكارهم الحقيقية ويخفونها عن الآخرين.
العودة إلى الطفولة حيث الحرية
الأطفال هم الكائنات الأكثر ليبرالية على الإطلاق، ليس لأنهم قرأوا كتب جون لوك أو تأثروا بفكر مونتسكيو، بل لأنهم يولدون بلا قيود، بلا تعصب، وبلا خوف من التعبير عن أنفسهم.
الطفل يسأل بحرية، يجرب بلا تردد، يختار ما يحب، ويرفض ما لا يريده، دون أن يكون مكبلاً باعتبارات المجتمع أو “ما يجب أن يكون”، لكنه سرعان ما يواجه جدار التوجيه القسري، حيث يُملى عليه كيف يتحدث، وكيف يفكر، وحتى كيف يجب أن يشعر.
منذ الصغر، تُزرع في الطفل أفكار الطاعة العمياء، الخضوع للسلطة، وعدم التساؤل عن المسلمات، يخبروه أن “الكبار دائمًا على حق”، وأن “التقاليد مقدسة”، وأن “الخروج عن الجماعة خطر”، وهكذا يبدأ تدريجيًا في فقدان حريته الفطرية، ليصبح تابعًا بدلاً من أن يكون كائناً مستقلاً.
يمكنك أن تدرك هذه الحقيقة في أبنائك، أولى سنوات نضجهم حيث يتساءلون بحرية ولا يخشون تجربة كل جديد بالنسبة لهم، ويمكنك رؤيتها أيضا في أطفال الآخرين.
ما هي الليبرالية؟
الليبرالية هي فلسفة سياسية واجتماعية تقوم على مبدأ الحرية الفردية، وتعترف بحقوق الإنسان باعتبارها أساساً لتنظيم المجتمع.
تؤمن الليبرالية بأن لكل فرد الحق في التفكير والتعبير والعمل بحرية، طالما أنه لا يضر بالآخرين، ترفض السلطة المطلقة، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، وتدعو إلى احترام التنوع، وسيادة القانون، والديمقراطية، وحرية السوق.
في الإقتصاد الليبرالي الحقيقي يدافع عن الخصخصة والتعويم وشفافية المعاملات المالية والتجارة الحرة، وهو يؤمن أنه من حق كل شخص انشاء عمل تجاري وتقديم خدمة أو قيمة وبيعها للناس ويجب أن تكون هناك بيئة مالية وتجارية وفكرية حرة تتيح له ليس فقط الإزدهار بحرية بل أيضا الإبتكار وتقديم أفكار جديدة تنفع المجتمع.
في المجتمع يدافع الليبرالي عن التعددية والإختلاف، حيث يحتضن الاختلافات الدينية والفكرية والسياسية ويرفض الإقصاء والاستبداد وهو يرى ان تعدد الألوان أفضل من لون واحد سائد على المجتمع والعالم.
في السياسة يؤمن أن الدولة موجودة لحماية الحقوق وليس للتحكم في حياة الأفراد، تدخل الحكومة في الاقتصاد والمال يجب أن يكون رقابيا محايدا وليس أن تكون منافسة للتجار والشركات، من الظلم أن يكون الخصم هو نفسه القاضي.
في حقوق الإنسان نجد أن الليبرالي مع حرية التعبير، حرية المعتقد، الحق في الملكية، والحق في الحياة والكرامة، شرط أن لا يكون هناك إضرار مادي واضح بالآخرين.
روح الليبرالية التي جسدتها كلمات توماس جيفرسون
في إعلان الاستقلال الأمريكي (1776)، كتب توماس جيفرسون أحد أشهر النصوص التي تعبر عن جوهر الليبرالية وحقوق الإنسان، حيث قال:
“نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية، وهي أن جميع البشر خُلقوا متساوين، وأنهم مُنِحوا من خالقهم حقوقًا غير قابلة للتصرف، ومن بينها الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، ولضمان هذه الحقوق، تُقام حكومات بين البشر، تستمد سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين، وأنه عندما يُدمِّر أي شكل من أشكال الحكم هذه الغايات، فمن حق الشعب تغييره أو إلغاؤه…”.
يعكس هذا النص الفكرة الأساسية لليبرالية، وهي أن الحرية حق طبيعي للإنسان، لا تمنحه الدولة ولا المجتمع، بل هو جزء من وجوده ذاته، كما يؤكد أن شرعية أي حكومة تستند إلى إرادة الشعب، وليس إلى سلطة مطلقة أو دينية.
هذا المبدأ الثوري كان حجر الأساس للعديد من الحركات التحررية في العالم، وألهم الديمقراطيات الحديثة، حيث أصبح يُنظر إلى الدولة على أنها خادم لحقوق الأفراد.
وهذا مختلف عن الأنظمة المحافظة والدينية التي تعتبر أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من الإله، والشعب تابع والحكم للرب أو الله وليس للبشر.
كل إنسان يولد حراً فإما أن يبقى كذلك أو يستسلم للعبودية
هذا المفهوم يعكس جوهر الليبرالية، التي ترى أن الإنسان يولد حراً بطبيعته، لكن المجتمعات والأنظمة تحاول تطويعه، إما عبر التنشئة المحافظة التي تفرض عليه قيوداً فكرية واجتماعية، أو عبر السلطة الاستبدادية التي تفرض عليه الخضوع بالقوة.
إما أن يحافظ الإنسان على حريته، فيعيش بكرامة واستقلالية، أو يستسلم لضغوط المجتمع والسلطة، فيتحول إلى عبدٍ للأفكار المفروضة، حتى لو ظن أنه يعيش حياة طبيعية.
والمشكلة هي أن الإنسان المحافظ سيعيش دائما التناقضات في حياته، بين ما يظهره للمجتمع وما هو عليه في الحقيقة، بين توجهاته الفكرية والنفسية والجنسية المعلنة وبين تفضيلاته الحقيقية المكتومة.
كما أنه في مجتمع محافظ، يظن الأفراد أنهم أحرار لأنهم يمارسون حياتهم اليومية بشكل تقليدي، لكنهم في الحقيقة مُجبرون على الالتزام بالقيم السائدة، هذا يشمل مسائل مثل الزواج، الدور الاجتماعي للمرأة، والوظائف المسموح بها. بينما لا يظهر القيد بشكل ظاهر، إلا أن الخيارات الحقيقية تكون محدودة.
كما يتم ترويج فكرة “حرية الدين” في المجتمعات المحافظة، ولكن في الواقع، الحرية الدينية تُقيد غالبًا بما يطابق المعتقدات السائدة.
في بعض المجتمعات المحافظة، لا يُسمح للناس بتغيير دينهم أو حتى بالشك في معتقداتهم، وتُعتبر تلك الأنواع من “الحرية” محظورة أو مشكوك فيها.
وفي النهاية الحرية الزائفة في المجتمعات المحافظة تتمثل في الرغبة في الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم والتقاليد، ولكنها تترك الأفراد محبوسين داخل إطار ضيق من القيود والضغوط.
أن تكون ليبراليا في المجتمعات المحافظة يتطلب الشجاعة
الليبرالية، في جوهرها، هي الحرية، وحق الإنسان في التعبير عن نفسه وفقًا لرغباته الخاصة دون الخوف من الرقابة أو القمع.
ومع ذلك، أن تكون ليبراليًا في المجتمعات المحافظة يشكل تحديًا كبيرًا، لأن هذه المجتمعات لا ترى الحرية كحق طبيعي، بل كتهديد للنظام القائم.
يصبح الإنسان الليبرالي في هذه المجتمعات شخصًا مختلفًا، قد يبدو شاذًا أو متمردًا، ما يجعله يواجه العديد من الصعوبات.
في المجتمعات المحافظة، يُعتبر الخروج عن المألوف نوعًا من التهديد للقيم الاجتماعية، أي شخص يعبّر عن أفكار غير تقليدية، سواء كان في المجال الفكري أو الثقافي أو حتى الجنسي، يُواجه بمواقف عدائية، هذا النبذ الاجتماعي يشمل العزلة، والرفض من العائلة والأصدقاء، والانتقادات الحادة.
المجتمعات المحافظة غالبًا ما تكون متشبثة بالقيم الدينية أو الثقافية التقليدية، ولذلك يُعتبر التفكير الليبرالي تهديدًا للقيم “المقدسة”، يصبح الشخص الليبرالي في موقف يتطلب منه دائمًا الدفاع عن أفكاره، وقد يُتهم بالكفر أو الانحراف.
في هذه المجتمعات أيضا، يُجبر الكثيرون على العيش حياة مزدوجة، حيث يظهرون التزامًا بالقيم المحافظة في العلن، بينما يخفون تفضيلاتهم الحقيقية في السر.
تتطلب الليبرالية الشجاعة لتجاوز هذا التناقض، والتعبير عن الأفكار والمعتقدات بحرية دون خوف من التسلط أو الرفض.
وفي النهاية هناك من يقبل العبودية طواعية، سواء بدافع الخوف أو الراحة أو التكيف مع المجتمع، فيما الليبرالي يختار الحرية رغم تكلفتها العالية، لأن العيش بحرية حتى لو كان مكلفًا، أفضل من حياة زائفة يحكمها الخضوع والتناقض.