لم يكن عبد الفتاح السيسي مجرد جنرال عسكري وصل إلى السلطة عبر انقلاب على الإخوان المسلمين، بل قدم نفسه كبديل للتيارات الدينية، مدعيًا بناء دولة حديثة تقوم على التنمية والاستقرار.
لكن بعد أكثر من عقد في الحكم، تحوّل هذا الجنرال إلى زعيم شعبوي إسلامي، يستخدم الخطاب الديني لاستمالة الجماهير، تمامًا كما يفعل رجب طيب أردوغان في تركيا.
كيف أصبح السيسي منافسًا للإخوان في الدين؟
يمكن القول إن عبد الفتاح السيسي لم يعد مجرد عدو لجماعة الإخوان المسلمين، بل أصبح منافسًا لهم في استغلال الدين وتوظيفه سياسيًا.
فبعد أن أطاح بهم من الحكم عام 2013 وسوّق نفسه كحامي مصر من “حكم الإسلاميين”، عاد اليوم ليستخدم نفس أدواتهم—الشعارات الدينية، والمهرجانات الخطابية، والتقرب من التيارات السلفية لإحكام قبضته على السلطة وامتصاص الغضب الشعبي الناتج عن انهيار الاقتصاد.
في حين اعتمد الإخوان على خطاب ديني يجمع بين الأيديولوجيا والمظلومية لكسب التأييد الشعبي، لجأ السيسي إلى أسلوب مختلف لكنه لا يقل خطورة: إعادة إنتاج الإسلام السياسي تحت عباءته الخاصة، حيث يكون الخطاب الديني موجّهًا لخدمة النظام بدلًا من التيارات الإسلامية التقليدية.
السيسي لم يعد فقط يحارب الإسلاميين، بل تبنّى بعض أساليبهم ليضمن استمرار حكمه، مما يجعله منافسًا لهم في معركة الهيمنة على الخطاب الديني، بدلًا من كونه مجرد خصم سياسي لهم.
لقد أدرك الرئيس المصري أنه عوض تدمير الخطاب الديني وتحرير الشعب المصري من الدروشة والتدين الفارغ وسط تدهور الاخلاق بسبب ارتفاع الفقر من الأفضل تبنيه وهذا خطأ فادح.
في الوقت الذي يعاني فيه المصريون من أزمة اقتصادية خانقة بسبب سياسات السيسي الفاشلة وتردده في تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، لجأ النظام إلى قمع الفن والثقافة وإحياء الشعارات الدينية لامتصاص الغضب الشعبي.
وبينما كان يُنظر إليه كخصم للإسلام السياسي، بات اليوم يروّج للتدين الزائف، محاولًا استغلال المشاعر الدينية لصرف الإنتباه عن تدهور الاقتصاد وسيطرة الجيش على مقدرات البلاد.
لماذا لجأ السيسي إلى التدين؟
عبد الفتاح السيسي لم يكن يومًا رجل دين، ولم يصل إلى الحكم بشعارات إسلامية، بل قدّم نفسه كبديل عن حكم الإخوان المسلمين، متعهّدًا ببناء دولة مدنية حديثة.
لكن مع تفاقم الأزمات الاقتصادية وتصاعد الغضب الشعبي، وجد السيسي نفسه بحاجة إلى ورقة جديدة للبقاء في السلطة: التدين الشعبوي.
منذ توليه الحكم، فشل السيسي في تحقيق وعوده الاقتصادية، حيث أدت مشاريعه غير المدروسة وسوء الإدارة إلى ارتفاع التضخم، تراجع الجنيه المصري، وتزايد الفقر.
ولأنه لا يستطيع تقديم حلول حقيقية، لجأ إلى استخدام الخطاب الديني لصرف انتباه الشعب عن الأزمات المتفاقمة، مروجًا لفكرة “الصبر على البلاء” و”الرضا بالمقسوم”.
في مواجهة الغضب المتزايد، تبنى السيسي خطابًا دينيًا محافظًا يركز على الأخلاق والتدين الشكلي، محاولًا إقناع المصريين بأن مشاكلهم ليست نتيجة سياساته، بل بسبب “البُعد عن الدين”، وهكذا، بدلًا من أن يثور الشعب ضد الفساد وسوء الإدارة، ينشغل بالجدل حول “الأخلاق” و”الهوية الدينية”.
باسم “الدين والقيم”، شنت الحكومة حملة على الفنون، حرية التعبير، وحتى بعض الممارسات الاجتماعية، حيث تم التضييق على الفنانين والمثقفين، ومنع بعض الأعمال الفنية التي لا تتماشى مع الخطاب الديني المحافظ الجديد.
كما تم تعزيز مادة الدين في التعليم وأصبح للأزهر نفوذ قوي في كافة مفاصل الدولة والفن والإعلام ويبدو أن اعتزال المخرج محمد سامي الدراما وقبله منع فيلم الملحد خلال الصيف الماضي هي من نتائج تضخيم دور الأزهر.
رغم قمعه لجماعة الإخوان المسلمين، عمل السيسي على تعزيز علاقاته مع التيارات السلفية، مانحًا إياها مساحة أكبر لنشر خطابها، مقابل دعمها السياسي. وهذا ما جعله يظهر كحامٍ للدين في نظر البعض، رغم تناقض ذلك مع صورته السابقة كحاكم “مدني”.
مثلما يفعل الحكام الشعبويون، يستخدم السيسي الدين كأداة لإضفاء طابع “مقدّس” على سلطته، فهو لا يتحدث كرئيس مدني، بل كـ”حاكم مؤيد من الله”، يطالب الشعب بالطاعة تحت غطاء ديني، محاولًا تبرير سياساته الفاشلة بعبارات مثل “هذه إرادة الله” أو “علينا الصبر والاحتساب”.
من السيسي إلى أردوغان: متى تتحول الشعبوية إلى استبداد ديني؟
الشعبوية أداة سياسية خطيرة، يستخدمها الحكام للبقاء في السلطة عبر استغلال المشاعر الجماهيرية بدلًا من تقديم حلول حقيقية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
وفي العالم الإسلامي، تأخذ الشعبوية طابعًا خاصًا عندما تتداخل مع الدين، لتصبح وسيلة للهيمنة الكاملة على المجتمع، تمامًا كما حدث مع رجب طيب أردوغان في تركيا وكما يحدث اليوم مع عبد الفتاح السيسي في مصر.
عندما وصل أردوغان إلى الحكم، ركّز على القضايا الاقتصادية، محققًا معدلات نمو عالية جعلته بطلًا شعبيًا وحقق ذلك بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، لكن مع الوقت، ومع تصاعد الأزمات، تحوّل خطابه إلى ديني أكثر فأكثر، مستخدمًا الإسلام كأداة للسيطرة على المجتمع وكسب تأييد الجماهير.
نفس السيناريو يتكرر في مصر، حيث بدأ السيسي بوعود الإصلاح والتنمية، لكنه انتهى إلى ترويج خطاب ديني محافظ لإخفاء فشله الإقتصادي.
في كل من تركيا ومصر، يتم استخدام الدين كوسيلة لتبرير القرارات السياسية القمعية، أردوغان يقدّم نفسه كحامي الإسلام والمسلمين، والسيسي يتظاهر بأنه راعٍ للقيم الدينية والأخلاقية، رغم أن كليهما يستخدم هذه الشعارات فقط لتعزيز سلطته.